فتاة من جدة ركبت دراجة هوائية عبرت بها بعض الشوارع المحيطة بمنزلها، فقط قادت دراجة، لم تقد صاروخاً ولا سيارة ولا حتى غواصة، وبالتأكيد لم تقد سيارة مفخخة. ثم «مانت قليلاً» وعبرت بصوت خفيض ومؤدب عن حلمها أن تلبس لوناً آخر للعباءة غير اللون الأسود، لون يناسب عصرها وروحها، وحرارة الشمس القابعة فوق رأسها ورأس المجتمع كله. لتقوم عندها قائمة ذكور «محتسبين» ضد حلمها البسيط، هؤلا لهم في كل قضية في البلد «قرص» ويتصورون أنفسهم أوصياء الله على خلقه، وكأنهم لم يخطئوا في حياتهم يوماً، ولم يعصوا الله أبداً ولو بقدر جناح بعوضة، أليسوا محتسبين، إذاً أقل من ذلك لن نقبل منهم. في الحقيقة اقترح على وزارة الداخلية أن تطلب من كل محتسب يتقدم بدعوى ضد جهة عامة أو ضد شخصية ما، صحيفة سوابق، فإذا كان «نقياً طاهراً ورعاً»، فيمكن قبول قضية احتسابه، أما إذا كان يُخطئ ويصيب وربما أخطاؤه أكبر من خطأ المدعى عليه فترفض دعواه، بل ربما يتم القبض عليه في قضية قديمة لم يحاسب عليها. هؤلاء مَنْ أعطاهم الحق في حرماننا من حياتنا ومن تطورنا الاجتماعي بدعوى الخوف على الفضيلة؟ مَنْ أعطاهم الحق من حرمان تلك الفتاة من ركوب دراجتها، والتعبير عن أفكارها البسيطة؟ أما كل أولئك المُحرضين «بضم الميم» إمعات المحتسبين السائرين في ركبهم غضباً للقبيلة أو غضباً لعرف القرية والمدن الصغيرة، الذين امتلأت بهم سفوح «الانترنت»، أجزم أنهم يعلمون تماماً أن جداتهم وأمهات جداتهم إن لم تكن أمهاتهم قد ركبن الجمال والبغال والحمير، فلماذا يقاتلون ضد «حق» ارتكبه الجميع قبلهم. لماذا هبوا كل تلك الهبة مستخدمين القبيلة والقرية والصحراء في خصومتهم مع تلك الفتاة، ضاربين بالوطن والتمدن «أذن التشفي» ومرارة الانكسار. تلك الفتاة أيها السادة تختلف تماماً عن «وفاء الشهري» الإرهابية، وكذلك عن «أم خباب» الإرهابية أيضاً، هي لم تأوِ أحداً من الإرهابيين، ولم ترسل أموالاً للقتلة والمأجورين في جبال تورا بورا ولا سهول اليمن، هي لوحت من بعيد عن طموح صغير وضئيل، ضمن نفسها الغضة أن تتمكن يوماً من قيادة دراجة هوائية «تافهة»، أن تعبر عن حقها في أن تفكر بعيداً عن سطوة عقولهم الذكورية المخضبة بدماء العنصرية والفصل. مَنْ خولهم أن يعبروا بها عبر مساحات التجريم والتخوين والتشويه، ومن أعطاهم الحق في العتب عليها أو على غيرها لأنها فكرت يوماً ما في لبس لون آخر غير اللون الأسود تضعه على جسدها؟ حتى أجساد النساء يريد الأوصياء السيطرة عليها والإسهام في خنقها داخل ألوانهم المقدسة وعقولهم وتصوراتهم المتوحدة. مَنْ قال يوماً إن اللون الأسود هو «قدس الأقداس»، وأنه بغيره تسقط الحياة والفضيلة، وأن الحياة من دون سطوته القاسية تنتهي وتزول الأمم؟ لماذا ننكر على فتاة أن تستبدل باللون الأسود لوناً آخر أبيض أو أخضر أو ما تشاء من الألوان؟ لماذا نحشر أنفسنا في تفاصيلها الصغيرة؟ مَنْ حول الألوان إلى عادة، ومَنْ حولها إلى مقدسة بعد ذلك؟ مَنْ حول الفضيلة كل الفضيلة باتجاه «الأسود»؟ من أخذ «المساحة البيضاء» وشطب الألوان الزاهية من حياتنا، وعبر بنا نحو لونه الأوحد؟! [email protected]