على السياسة الاقتصادية الأوروبية تجاوز المعالجة المباشرة لأزمة الرأسمالية المتمولة والمدمنة الدين، الى سياقها العريض والبعيد. فالمعالجة الظرفية تقتصر على حماية سيولة الأسواق من طريق ضمان سداد الدول المدينة التزاماتها وإيفاء هذه الالتزامات. ومدار العلاج على الحفاظ على المصارف التي قادت المالية العامة الى الواقعة المشهودة. وأما استعادة الطاقة على سداد الديون العمومية والخصوصية، وانتهاج طريق النمو، فتحديان تقتضي مواجهتهما التصدي لمشكلات الهيئات الناظمة والغايات السياسية المعقدة التي تعترض طريق الحل. وتعاني بلدان منطقة اليورو تناقضاً يستعصي تجاوزه وحله إذا هي لم تنتهج سياسة اقتصادية على خلاف تلك التي انتهجتها الى اليوم. فالباحثان كارمن رينهارت وكينيث روغوف برهنا على أن بلوغ الدين العام نحو 90 في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي يخفض النمو اللاحق الى نصف ما كان عليه قبل انفجار الأزمة التي أدت الى تعاظم الدين. والحال أن نصف بلدان منطقة اليورو إما يتوقع أن تبلغ العتبة هذه في أواخر 2011 أو يتوقع أن تتجاوزها، ولكن بعض بلدان دائرة النفوذ الجرماني، مثل هولندا والنمسا وفي المرتبة الأولى ألمانيا، لن تبلغها. وعلى هذا، تقضي مصلحة بلدان منطقة اليورو المشتركة أن يتولى فريق هذه البلدان قيادة سياسات دعم الطلب. وفي مستطاع هذا الفريق مساعدة البلدان المضطرة الى تثبيت موازناتها على بلوغ نمو لا يقل عن 2 في المئة، هي في أمسّ الحاجة اليه في سبيل عكس نازع ماليتها الى التردي، والحؤول دون جرها المنطقة كلها الى التخبط في دوامة أزمة عامة. ولا مناص من تحويلات بين الماليات والموازنات الوطنية إذا شاءت منطقة اليورو إنقاذ عملتها الموحدة. ولا ريب في أن إنشاء صندوق أوروبي يتعهد تدبير التضامن بين البلدان، والحال هذه، إجراء مجد. ولكن ما يرشح عن نوايا الحكومات يخالف منحى المعالجة هذا. فالفخ الانتحاري يوحي الى الحكومات بالسعي في تخفيض عجزها العمومي الى أقل من 3 في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي في غضون 3 أعوام الى 5 أعوام، وفي تقليص دينها الى أقل من عتبة 60 في المئة الأسطورية في الأثناء. والحق أن تخفيض الولاياتالمتحدة دينها الكبير غداة الحرب الثانية لا يصلح مثالاً. ويقتضي تخفيض الديون الأوروبية حوالى 10 أعوام الى 15 عاماً، الى مساندة المصرف المركزي الأوروبي ونمو متصل. وما يعنيه النظر في ميثاق الاستقرار هو تقليص النفقات العامة على طريق انكماش تنافسي، ويؤدي هذا الى انتهاج سياسة ألمانيا منذ إصلاحات شرويدر في أوائل عقد ال2000. ومكنت هذه السياسة ألمانيا من دعم اقتصادها بواسطة الفائض الخارجي على حساب شركائها الأوروبيين، و75 في المئة منه نجم عن مبادلات ألمانيا مع أوروبا، وبواسطة فحش الاستدانة الخاصة في البلدان التي شجعت المضاربة العقارية بالوسائل كلها. والاستدانة الخاصة ضخمة، وهي بلغت 335 في المئة من الناتج الإجمالي الداخلي في بريطانيا، و317 في المئة بإسبانيا، نظير 200 في المئة بألمانيا و196 في المئة بفرنسا. وتؤدي مساعي تقليصها الى إفراط في طاقات الإنتاج، والى انخفاض استثمارات الشركات، وتعاظم البطالة، والى ركود الأجور أو ترديها وزيادة توفير الأسر. وعليه، يعجز القطاع الخاص عن تعويض نتائج التقشف المالي العام في البلدان المدعوة الى تقشف قاسٍ، وهي البرتغال وإسبانيا وإرلندا وإيطاليا، ويتهدد منطقة اليورو الوقوع في الفخ الذي وقعت فيه بلدان كتلة الذهب في الأعوام 1932 - 1936 غداة تخفيض قيمة الجنيه الاسترليني في أيلول (سبتمبر) 1931، أي في حلقة الانكماش المفرغة والركود وزيادة قيمة الدين الحقيقية. ويفاقم خطر النازع هذا ميل نمو البلدان الثلاثة الكبيرة في منطقة اليورو، منذ 40 عاماً، الى التباطؤ. ودخلت إيطاليا دائرة الركود الصريح. فإذا لم يتول عامل من عوامل الطلب الداخلي دعم النمو وتحفيزه، حُكم على سياسة تثبيت المالية العامة بالإخفاق، إلا إذا اضطلع الطلب الخارجي بقطر النمو محل الطلب الداخلي. والقرينة على جواز الأمر هي تعديل خروج البلدان الاسكندنافية من أزمة 1990 المالية، وتجاوز بريطانيا أزمتها غداة خروج الجنيه من النظام النقدي الأوروبي في خريف 1992، على تخفيض قيمة عملاتها الوطنية وتعظيم صادراتها، وتقليصها ديونها العمومية جراء ذلك. ويقتضي الحذو على المثال هذا خسارة اليورو شطراً لا بأس به من قيمته ليبلغ 1.20 دولار لقاء يورو واحد، ويحافظ على سعر صرف بين 1.2 و1.3، على أن تزيد قيمة العملات الآسيوية بإزاء الدولار في الأثناء. ويترتب على هذه العوامل مجتمعة حصول صدمة طلب إيجابية، قوية ومستدامة، تمهد الطريق الى نمو ذاتي متماسك. وليس هذا إلا مقدمات النمو واستئنافه، وفاعلية السياسات البنوية الطويلة الأمد ليست بمنأى من دينامية الإدارة الاقتصادية على مستوى الاقتصادات الشاملة. ولا يجوز ترك البلدان الى انتهاج سياسات متباينة ومختلفة. فموازنات بلدان منطقة اليورو تحتاج كلها الى هيكلة متناغمة. والخطة المحفزة تقتضي تنسيقاً وثيقاً بين الموارد البشرية والتكنولوجية في سبيل ريادة موجة تجديد وابتكار تتولى تخفيض استهلاك الطاقة، واستبدال مصادرها الحالية بمصادر متجددة، وتضطلع بحماية البيئة وتقليص كلفة الصحة. وينبغي مشاركة البلدان الناشئة ثمرات الموجة هذه، فهي طليعة النمو العالمي ومحركه. فلا غنى، والحال هذه، عن الخروج من منطق المالية الحسابي، وعن هيكلة الواردات والنفقات. ولا غنى كذلك عن توسيع قاعدة الضريبة وإلغاء الإعفاءات الزبائنية، وتؤدي ضريبة أوروبية تصاعدية على انبعاثات الكربون الى توجيه الاستثمارات صوب المجالات المؤاتية. وحري بالحكومات إنفاق عوائد صندوق الضريبة على الأبحاث والتطوير، وعلى تخفيض كلفة العمل. والنمو الأخضر، وتجديد التخطيط المدني، حافزان قويان على النمو. ولا ريب في أن الأولوية المطلقة هي الاستثمار العام في التربية المستدامة والأبحاث. * أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة باريس العاشرة وعضو المعهد الجامعي وصاحب كتب في الاقتصاد النقدي الدولي، عن «لوموند» الفرنسية، 18/5/2010، إعداد وضاح شرارة