يعتبر المشهد المأزوم في الاقتصاد الأوروبي، ارتداداً متأخراً لتداعيات الأزمة الاقتصادية التي انطلقت صوب القارّة الأوروبية من الضفة الغربية للأطلسي. وتظهر الدراما الاقتصادية الأوروبية كأنها ثأر أميركي من تنافس يعود إلى عشية الألفية الثالثة، مصدره توحّدٌ كامل لدولٍ كانت حتى قبل نصف قرنٍ تختتم أجيالاً من العداء العضال والاقتتال المثخن بجروحٍ مسممة، والمتوّج بملايين القتلى، لم تخرج منه «القارّة الثكلى» إلا بمساعدة الولاياتالمتحدة التي عادت ودفقت مساعدات مادية لاستنهاض أوروبا من هاوية الحروب والبؤس. لكن خطة الإنقاذ الأميركية تحوّلت إلى جسرٍ يربط تلك الدول لتعبره نحو اتحادٍ جيوستراتيجي اقتصادي أكثر منه سياسي، تحت اسم «الاتحاد الأوروبي» لاحقاً، يظلّل 27 دولةً من غرب القارّة ووسطها وشرقها ويجمع أطرافها المتوسطية مع سواحلها على بحر الشمال وشرقها الطالع من ظل شيوعية لم تساعده كثيراً على النمو مع غربها المتقدّم أكثر اقتصادياً واجتماعياً وتقنياً بل حضارياً. التداعيات الأوروبية الاقتصادية إذاً تمثّلُ الوجه الآخر للأزمة، ربما في إنذار إلى أن الموجات الارتدادية ستتكامل في دورة كوكب الأرض لتطاول الصين الخائفة من فقاعة عقارات وتعثّر في التصدير وتراجع في فائض ميزانها التجاري الذي تعوّل عليه كثيراً. وتقدّر منظمة التعاون الاقتصادي أن تحقق الصين نمواً يتجاوز 11 في المئة هذه السنة ليتراجع إلى 8.5 في المئة السنة المقبلة. التداعيات الأوروبية هذه تلخصها موجة وهنٍ تصيب أعضاءَ في منطقة اليورو التي تضم نحو ثلثي دول الاتحاد، بين أعضاء فعليين وآخرين يرغبون في الانضمام. ففي المشهد الأمامي خططٌ للتقشف تعتمدها حكومات في الاتحاد الأوروبي، بدأتها اليونان ثم إسبانيا وإرلندا والبرتغال وبريطانيا وإيطاليا، وهذا لا يعني أن الأعضاء الآخرين لم يقلّصوا بنود النفقات في موازنتهم العامّة أو لا يرغبون، بخاصّةٍ أن المشكلة الأساسية التي تعاني منها أوروبا منطقة اليورو لا تنحصر فقط في تجاوز عجز الموازنات سقف 3 في المئة المحددة في اتفاق لشبونة، بل تتعداها إلى سقف الديون العمومية بخاصةٍ السيادية. فعلى رغم أن أسبانيا كانت تحقق فائضاً في موازنتها إلا أن ديونها العامة -، لا سيّما المتعلّقة بالأسر وتتخطى 103 في المئة من الناتج المحلّي-، سبب رئيس في أزمتها المالية الحالية. هذه الأسباب أضعفت الثقة بالعملة الأوروبية الموحدّة، وأيضاً في عملات رئيسة مثل الجنيه الإسترليني والفرنك السويسري، بخاصةٍ تجاه الدولار والين الياباني. وفي العمق يُخشى -، إذا لم تدعم الخطة الأوروبية التي تقارب تريليون دولار، الاقتصاد الأوروبي، وإذا أوقف مجلس الاحتياط الفيديرالي الأميركي تزويد المصارف المركزية الأوروبية بالدولار في نطاق «خطوط المبادلات بالدولار» -، من أن تلجأ أوروبا - منطقة اليورو إلى إصدار العملة غير المغطاة بالنشاط الاقتصادي، ما يخفّض قيمتها على صعيد الإقليم المالي الموحّد. حتماً تدفع هذه الأوضاع المقلقة الجيل الثاني من حكام الاتحاد الأوروبي والمسؤولين عنه خصوصاً في منطقة اليورو، إلى اتخاذ إجراءاتٍ واقية لم تلحظها إجراءات جيل المؤسسين، الذين بالطبع لم يتعرّفوا الى الأدوات المالية الفسيفسائية التي أدّت إلى انهيارات عمالقة مؤسسات المال، وزعزعت أسس الحكم في دولٍ اقتصادها متين. من هنا أقدمت ألمانيا على وقف موقت لعمليات بيع السندات على أنواعها بالمكشوف، وأقترح المفوّض الأوروبي للسوق الداخلية وضع ضرائب على المصارف تغذي «صندوق أزمات» (عارضته فرنساوألمانيا) إذ يجب «أن يتكفّل القطاع المالي بدفع تكاليف الأزمات المصرفية في المستقبل» وليس دافعو الضرائب. ويتوافق تبني الاقتراح مع طلب وزراء المال في الاتحاد الأوروبي، التشدّد في ضبط الموازنات والتقشف في الإنفاق، ما يهدّد النمو، إلا إذا التزم الإنفاق حدود الترشيد والتوازن الخلاّق. فارتفاع مستوى الديون العمومية إلى مستويات غير حصينة يهدّد الاقتصاد الأوروبي وتالياً العالمي، لما تمثّله القارّة على صعيد تبادلات التجارة والخدمات والمساعدات والابتكار ووزنها في مكوّنات اقتصاد كوكب الأرض. وتقدّر المفوضية الأوروبية أن تبلغ ديون اليونان نحو 137 في المئة قياساً إلى ناتجها المحلي في 2011 وإيطاليا 118 وإرلندا 97 والبرتغال 95 وفرنسا 84 وألمانيا 80 وأسبانيا 67 في المئة. ولا تُتهم الحكومات بالديون وحدها، فالتسهيلات المصرفية والفوائد المعتدلة جعلت ديون الأفراد والمؤسسات تتخطى بكثير الديون العامة. فعلى سبيل المثال بلغت هذه الديون 190 في المئة من الناتج المحلي لإرلندا نهاية 2009، و163 في أسبانيا، و160 في البرتغال، و98 في ألمانيا، و91 في فرنسا، و90 في إيطاليا، و80 في اليونان و61 في بلجيكا. لذا تبرهن الأزمة أن مؤسسي اليورو أغفلوا ثغرات أساسية تقلق خلفاءهم، وقد تكون أكثر فائدة للمستقبل إذا عولجت برويّة ودّعّمت أساسات منطقة اليورو، وتالياً الاتحاد الأوروبي.