أمير الشرقية يستقبل الرئيس التنفيذي لهيئة تطوير محمية الملك عبدالعزيز الملكية    الموافقة على الإطار العام الوطني والمبادئ التوجيهية للاستثمار الخارجي المباشر    أمريكا تختار الرئيس ال47.. ترمب أم هاريس؟    مقتل 37 فلسطينياً.. مجزرة إسرائيلية في قطاع غزة    الاستخبارات الأمريكية تكثف تحذيراتها بشأن التدخل الأجنبي في الانتخابات    بدء الاقتراع الرئاسي في نيوهامبشر بالولايات المتحدة    الأكبر في الشرق الأوسط.. مقر عالمي للتايكوندو في الدمام    رابطة محترفان التنس..سابالينكا تحجز مقعداً في نصف النهائي.. ومنافسات الغد تشهد قمةً بين إيغا وجوف    منتدى "بوابة الخليج 2024" يختتم أعماله بإعلانات وصفقات تفوق قيمتها 12 مليار دولار    كيف يعود ترمب إلى البيت الأبيض؟    محافظ الخرج يستقبل مدير عام فرع هيئة الأمر بالمعروف بالرياض    انعقاد مؤتمر الأمراض المناعية في تجمع عالمي وطبي    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يرأّس اجتماع المؤسسة الثقافية الإسلامية بجنيف    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    "الصناعة والثروة المعدنية" تعلن فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    إشكالية نقد الصحوة    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    تنوع تراثي    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    مسلسل حفريات الشوارع    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    «تطوير المدينة» تستعرض التنمية المستدامة في القاهرة    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    أمير تبوك يستقبل القنصل البنجلاديشي لدى المملكة        مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حين عالج المفوّض السامي الأميركي في العراق اشتباكاً بين طالباني والجعفري... على بناية في المنطقة الخضراء (1)
نشر في الحياة يوم 31 - 05 - 2010

تنشر «الحياة» في خمس حلقات فصولًا من كتاب الصحافي الأميركي جون لي أندرسون «رجلنا في بغداد» الذي يتناول فيه بعض خفايا الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولات الجانبين العراقي والأميركي إعادة ترتيب الوضعين السياسي والأمني في البلد، في ظروف شديدة التعقيد والصعوبة.
تتناول الفصول أدوار شخصيات محورية في فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين والأحداث التي واجهتها والمساعي الداخلية والخارجية لتطويق أخطار الحرب الأهلية.
يصدر الكتاب باللغة العربية قريباً عن مؤسسة «شرق غرب للنشر- ديوان المسار».
في إحدى الأمسيات من أواسط تشرين الثاني (نوفمبر) استقبل زلماي خليل زاد السفير الأميركي في العراق زائراً في مكتبه في السفارة الأميركية في بغداد التي تحتل مبنى القصر الجمهوري القديم لصدام حسين، وهو مكان فيه غرف ذات سقوف عالية وقاعات كبيرة وسلالم مزينة بالعقيق والرخام. وقد أقامت الولايات المتحدة فيها كياناً بيروقراطياً شبه عسكري من حيث درجاته الوظيفية وبيئته العملية التي هي عبارة عن شيء شبيه بوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون). ومع وجود خمسة آلاف موظف ومتعاقد، فإن السفارة تعتبر الموقع الحقيقي للسلطة في العراق. أما زائر خليل زاد فقد كان فلاح النقيب وهو عربي سنّي شغل منصب وزير الداخلية في العراق في حكومة إياد علاوي (...) إلى حين هزيمتها(...) من قبل ائتلاف الأحزاب الشيعية الدينية.
جاء النقيب إلى خليل زاد تماماً كما يفعل الآخرون من المسؤولين العراقيين إن كانت لديهم قضية عاجلة يريدون مناقشتها، وأخبره أن لديه وثيقة تثبت أن خلفه في وزارة الداخلية بيان جبر كان قد أمر بإلقاء القبض على ستة عشر من السنّة الذين وجدوا مقتولين في ما بعد. وقال إن جبر كان قد احتجز أيضاً ابن صديق له لما كان يعتقده أسباباً سياسية. ولشهور عدة وردت تقارير تفيد بأن ألوية وزارة الداخلية المشكلة حديثاً كانت تنفذ عملياتها بأسلوب فرق الموت في بغداد وضواحيها وتقوم باغتيال المشتبه بهم من السنّة عادة. وكان جبر وهو أحد المسؤولين الكبار في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق قد جنّد عدداً كبيراً من رجال الميليشيات من الجناح العسكري للمجلس والذي يعرف بتنظيم «بدر» كي ينضموا إلى قوات الأمن الحكومية. وقال النقيب إن الميليشيات كانت تشكل مشكلة أبعد مدى من مشكلة المسلحين. وكان يريد من خليل زاد أن يقوم بشيء حيال ذلك.
رفع خليل زاد حاجبيه باهتمام وأشار إلى مساعد له كان يجلس في زاوية الغرفة لأخذ الملاحظات. وأشار قلقاً إلى أن الميليشيات كانت فعلاً تعتبر مشكلة. «فهي جذور للحرب الأهلية في المستقبل أو ما تسمى بسيادة أجواء الحرب»، كما قال للنقيب. ثم أردف إنه خطط لإقامة برنامج لإخراج أفراد الميليشيات من الشوارع ومن قوائم الرواتب. إلا أن قلقه المباشر كان الإرهابيين الذين يعبرون الحدود السورية إلى العراق.
كان خليل زاد معتمداً لدى الحكومة العراقية الجديدة ولكن مع دعم 160 ألف جندي أميركي، فإنه يبدو الشخص الذي يربط شتات الحكومة معاً. ويبدو منصبه أشبه ما يكون بالمفوض السامي الملكي أكثر من كونه ديبلوماسياً تقليدياً. في الواقع إن الصراع الذي يتعامل معه هو صراع طائفي في شكل متزايد. فمنذ الغزو الأميركي في آذار (مارس) 2003 شعرت الأقلية من العرب السنّة الذين كانت لهم حظوة لدى صدام حسين بأنه قد تم تهميشها بانتقال السلطة إلى الشيعة. لذا فالتمرد العراقي هو سنّي في شكل كبير، والحال نفسه مع الانتحاريين الجهاديين. لذا فالضحايا الأساسيون المستهدفون في تصورهم هم الشيعة فضلاً عن الجنود الأميركيين توازناً مع السنّة الذين يقعون ضحايا للمسلحين الشيعة والجنود الأميركيين.
خليل زاد هو شخص طويل القامة والوجه وعيناه بنيتان وأنفه مدبب كبير وفكّه قوي. وكان لباسه أنيقاً ويفضل البدلات السوداء أو الرمادية الداكنة لرجال الأعمال. ويبلغ من العمر 54 عاماً ويمشي بقامة منتصبة لكن ساقيه مرتخيتانِ كلاعب كرة سلة. وحين تناولنا غداءنا أخبرني أن القوات الأميركية قد داهمت في الليلة السابقة بناية وزارة الداخلية واكتشفت 173 سجيناً محتجزين سراً في قبو أرضي. (وظهرت القصة في اليوم التالي على الصفحات الأولى للصحف حول العالم). وكان الكثير من السجناء يعانون سوء التغذية أو المرض الشديد وبدت عليهم علامات التعذيب. وقال خليل زاد إن الجنود وجدوا أدوات للتعذيب بما في ذلك السياط والأسلاك المعدنية التي جلبت إليه لمشاهدتها في مكتبه ذلك المساء. فقال: «إن ذلك أمر سيىء جداً».
كان خليل زاد يتمتع بسمعة المفكر الاستراتيجي، وكان رجلاً ذا غرائز سياسية استثنائية، ويبدو أن الاهتمام الذي أبداه للمداهمة لم يكن عرضياً. وحين أخبرني بما وجده الجنود، بدا واضحاً أنه كان مستعداً لمثل هذا الاكتشاف وأنه كان أعد خطوط رد فعله مسبقاً. لقد كان وقع القصة مثل وقع الكارثة على حكومة بوش. فالحرب قد تم تبريرها كأسلوب لجلب الديموقراطية إلى العراق. والآن يبدو أن الولايات المتحدة وجدت نفسها في وضع تساند فيه حكومة تستخدم التكتيكات نفسها ضد خصومها كالتي كان يستخدمها صدام. إلا أن خليل زاد لم يكن قلقاً جداً بل حاول أن يجعل الاكتشاف يبدو شيئاً جيداً لأنه سيبعث برسالة إلى جماعة السنّة مفادها أن الأميركيين كانوا يتدخلون لمصلحتهم، وأنَّ ذلك سيجعل الشيعة في الحكومة يعرفون أن هناك حدوداً لسلطتهم. تلك السلطة التي كانت أميركا راغبة في فرضها.
في إطار الدعاية التي أحاطت بالسجن السري لوزارة الداخلية كان السياسيون السنّة في مقدم الأشخاص الذين دانوا الحكومة. وحيث إن الحرب بدأت، فإن السنّة على نحو عام قد اعتبروا بعثيين أو عشائريين مستائين أو إرهابيين إسلاميين. (في الواقع إن النقيب وبكل تعابير سخطه كان متهماً بالسماح بالتعذيب حين كان في السلطة). وكانت تلك واحدة من المرات الأولى التي كان السنّة فيها قادرين على الادعاء على نحو مقنع بأنهم كانوا ضحايا وقد فازوا بذلك).
من أوجه عدة يبدو خليل زاد مبعوثاً نموذجياً للعراق. فهو ولد في أفغانستان وتلقى تعليمه في بيروت وأميركا، وهو مسلم معتدل مع خبرة طويلة في دوائر السياسة الخارجية الأميركية.
ومنذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كان زاد في صميم سياسة الحرب على الإرهاب. وحين قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان كان خليل زاد المساعد الخاص للرئيس لشؤون الشرق الأوسط وغرب آسيا، حيث كان مسؤولاً أمام مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس في حينه. وقد عمل على نحو وثيق مع حلف شمال الأطلسي والخصوم الآخرين لنظام طالبان. وبعد سقوط كابول، ساعد على جمع شتات الحكومة الانتقالية لحامد كرزاي. وفي أواخر 2002 حين كانت الحرب على العراق في مراحل التخطيط سمّاه الرئيس بوش سفيراً للعراقيين الأحرار.
كان خليل زاد من الصقور وكان قريباً من المحافظين الجدد مثل ريتشارد بيرل ونائب وزير الدفاع السابق بول وولفوفيتز، وكان قد طرح مشروع تغيير النظام في العراق قرابة أكثر من عقد من الزمن. وقد وصل إلى بغداد قبل أيام قليلة من وصول أولى القطعات الأميركية مع الجنرال جاي غارنر الذي أرسل للإشراف على إعمار العراق. لكن بعد أسابيع قليلة تم استدعاء خليل زاد وجاي غارنر على نحو مفاجئ إلى واشنطن بطلب من البنتاغون وتمَّ استبدال بول بريمر بهما، وهو الذي أصبح رئيس سلطة الائتلاف الموقتة. وكان بريمر قد برهن في كل ناحية على كونه غير كفي. فحلّه الجيش العراقي في أيار (مايو) 2003 قد أعطى المسلحين زخماً واستمرارية توسعية على نحو كبير.
في أواخر 2003 أرسل خليل زاد إلى أفغانستان كسفير للولايات المتحدة. أما رصيده السياسي في الحكومة الأميركية فقد كان كبيراً نتيجة نجاحه هناك. وبينما كان في كابول، أجرت أفغانستان أول انتخابات حرة لها في التاريخ وفاز بها كرزاي بسهولة. وقد اعتبر كرزاي خليل زاد صديقاً مقرباً ومستشاراً.
على أية حال نقل بوش خليل زاد بعدما فقدت القوات الأميركية سيطرتها على الأمن في العراق(...)
وحين منح خليل زاد منصب السفير الأميركي اتصل مباشرة بزبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر، والذي كان أستاذاً لخليل زاد عندما كان الاثنان في الكلية في كولومبيا في بداية الثمانينات من القرن الماضي. وقال بريجنسكي أخيراً: «لقد أخبرته أنه يتعين عليه أن يكون مهتماً بالسياسة وليس عن تنفيذ السياسة. وكان عليه أن يتحمل أكثر من سابقيه ممن لم يعرفوا شيئاً عن العراق. ولا أعرف كم من صنّاع القرار البارزين لدينا قد عرفوا قبل سنوات قليلة الفارق بين السنّة والشيعة. لقد كان قراراً شجاعاً أن يضع نفسه على خط النار. إنه شخصية براغماتية متفتحة وهو استراتيجي ذو بصيرة. وكانت له ميزة فريدة في جزء من العالم أصبحت فيه الولايات المتحدة متورطة وليس لديها الكثير من الناس في القيادات العليا ممن لديهم القدرة على التعامل مع ذلك. فصنّاع القرار البارزون اليوم هم عبارة عن جهلة ودمى».
أخبرني خليل زاد أنه عام 2003 كان قادراً على التنقل بحرية في شوارع بغداد وشراء البوظة وهو أمر لم يعد في الإمكان الآن تخيله. وعوداً على بدء كان متفائلاً بالنسبة إلى العراق. وبعد سنتين ونصف سنة كان قد عاد إلى بيئة تغيرت على نحو كبير مع وجود مقاومة قادرة على كسب الفائدة بشنّها 70 هجوماً في اليوم. وبعد مضي أقل من أربعة أشهر على وجوده كانت هناك حملة مكثفة في الكونغرس لسحب الجنود مما كانت تبدو للكثير من أعضائه أنها حرب خاسرة.
وقال خليل زاد: «شئنا أم أبينا فقد وضعنا أنفسنا في موضع يرتبط بوقتنا ومكانتنا وأمننا المستقبلي». ثم قال بعدئذ: «أرى نفسي جندياً، أي جندياً ديبلوماسيّاً تم إعادة تجنيده. فحين تعيّنت عليَّ العودة إلى العراق بعد أفغانستان لم يكن ذلك قراراً سهلاً. فقد قمت بتطوير علاقات جيدة مع الكثير من الناس هناك وشعرت أن الكثير قد تم إنجازه إلا أن أفغانستان لا يزال أمامها طريق طويل... ثم تعيّنت عليّ بعد ذلك العودة إلى هنا».
في يوم التقى خليل زاد سفيراً يمثل أحد شركاء أميركا في التحالف، وهو بلد لديه قطعات في العراق. قاد خليل زاد النقاش إلى برنامج الإعمار الذي كان يأمل أن يحل بالبلد. إلا أن السفير الأجنبي كان يريد الحديث عن قضية الأمن. وكان مسؤول حكومي كبير قد استولى على البناية التي كان بلد السفير قد حصل عليها داخل المنطقة الخضراء لسفارته. (وقد طلب السفير الأجنبي عدم ذكر اسم بلده أو اسم المسؤول العراقي في التقرير لأسباب أمنية). ونتيجة لذلك أجبر هو وموظفوه على العيش في ظروف خطرة خارج المنطقة الخضراء.
قال خليل زاد إن مسألة السكن في المنطقة الخضراء كانت مشكلة، فقد تخاصم أخيراً الجعفري وجلال الطالباني على بناية فارغة. وقال خليل زاد ضاحكاً: «إن الرئيس كان على وشك إرسال قوات البيشمركة وهي الميليشيات الكردية». أنصت السفير الأجنبي إلى هذه الحكاية بصمت مطبق. (علمت بعد ذلك أن رجال الجعفري والطالباني كانوا على وشك إطلاق النار على بعضهم حينما تدخل خليل زاد. احتفظ الطالباني بالبناية وهي عبارة عن مقر سابق لحلف الناتو).
حاول خليل زاد تغيير الموضوع إلى مسألة المساعدة المالية التي وعد بها بلد السفير. فأخبره السفير: «هناك تباطؤ في الاستثمار. فهناك المعارضة كما تعرف بسبب قضية السكن. وإن لم تهتم الحكومة العراقية بما يكفي لحكومة تنفق أموالاً طائلة في بلدها إذاً لماذا...» خفت صوته ثم نظر إلى خليل زاد(...).
وعد خليل زاد بالتحدث مع رئيس الوزراء العراقي حول الدار، وللمرة الأولى بدا السفير الأجنبي مسروراً فقال: «سيحبك رجال حمايتي».
حينما وصل خليل زاد إلى بغداد كانت مهمته الأولى هي المساومة على حل وسط في الدستور. فالوقت المحدد كان 15 آب (أغسطس) وكانت هناك انقسامات عميقة. فقد قاطع السنّة بالأغلبية انتخابات كانون الثاني لبرلمان مسؤول عن وضع الوثيقة، وشعر الكثير من السنّة أن مصالحهم قد أهملت. ومدّد الوقت النهائي لأسبوعين وحاول خليل زاد أن يساوم على حل وسط.
أخبرني طارق الهاشمي زعيم الحزب الإسلامي العراقي الذي يهيمن عليه السنّة أن خليل زاد قد ساعد على إقناعه بالموافقة على المسودة. وقال الهاشمي إن الكثير من السنّة لم يفهموا أو يوافقوا على قراره. بل إن المتطرفين أطلقوا صاروخاً على مقر حزبه انتقاماً. وحين تحدث خليل زاد قال: «طرحت القضية عليه وقلت إن عليه ضمان بقاء العراق موحداً في الوقت الحالي. فنحن على شفا حرب أهلية وأخشى أن يكون المستقبل مظلماً».
وافق حاجم الحسني وهو سنّي معتدل ذو ثقافة أميركية، وهو الناطق بلسان البرلمان الوطني الانتقالي للعراق على أن خليل زاد قد ساعد على جلب السنّة إلى العملية السياسية. وقال: «إن خليل زاد لعب دور الوسيط ويعلم كل شخص أنه وثيق الصلة بإدارة بوش، لذا فقد كان ذلك مفيداً».
أما رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية الشيعي عبدالعزيز الحكيم فقد كان أكثر تحفظاً. ففي المفاوضات الدستورية، قال: «إن الولايات المتحدة قلقة وهناك الكثير من المصالح الأميركية معنية بذلك ولا يمكننا أن نقول إن السيد خليل زاد كان محايداً بالمعنى الكامل للكلمة، وهذا له صلة بالاستراتيجية الأميركية، بل حتى إن الرئيس بوش تدخل في العملية باتصاله بي. هذا أمر طبيعي».
لقد ولد خليل زاد في مدينة مزار الشريف الشمالية من أفغانستان عام 1951. وفي حينه كان والده موظفاً مدنياً في حكومة الملك ظاهر شاه حيث كان يعمل في دائرة محلية في وزارة المالية. وقال إن أمه «لم تكن لديها أية ثقافة رسمية غير أنها كانت امرأة عصرية واسعة الاطلاع دائماً. ولم يكن في وسعها القراءة أو الكتابة، إلا أنها تجعل الأولاد يقرأون الصحف لها. أعتقد لو أنها كانت قد ولدت في وقت مختلف لكانت شخصية سياسية مرموقة».
وقالت زوجة خليل زاد، شيرل بينارد وهي أسترالية - أميركية تعمل محللة سياسية كبيرة في مؤسسة (RAND) وهي مجموعة بحثية حيث كانت هي وزوجها يعملان لسنوات: «إن والدة زاد قد تزوجت من أبيه بعمر الثانية عشرة. وكان والده بيروقراطياً من الطبقة فوق الوسط وكان كذلك أوتوقراطياً. وزاد يدعو أمه بالطباخة القوية، فهو يعتقد أنه لو لم يكن هناك تقدم اجتماعي للنساء في المجتمع، فلن تكون هناك فترة من التقدم الاجتماعي البتة. وأحد الأشياء التي أثارت اهتمام زاد في الولايات المتحدة هي الطريقة التي تعامل بها النساء».
وصل خليل الى بيروت عام 1970 وبقي هناك حتى عام 1974، أي سنة قبل الحرب الأهلية في لبنان. وقد درس العلوم السياسية وتاريخ الشرق الأوسط. في ذلك الوقت كانت بيروت مدينة متطورة وحضارية وكانت الجامعة الأميركية احد المنابر الفكرية والثقافية في الشرق الأوسط حيث يلتقي الشباب العرب والأوروبيون والأميركيون ويدرسون ويناقشون القضايا علناً. ويستذكر خليل زاد ذلك بقوله: «لقد كانت مكاناً رائعاً بالنسبة إلى شاب. فقد كان هناك شباب من كل أنحاء العالم وقد تعلمت الكثير عن أفغانستان والشرق الأوسط».
والتقى خليل زاد أيضاً شيرل بينارد التي كانت تجري بحثاً لنيل الدكتوراه حول القومية العربية. وقالت شيرل: «أنا تربيت في كنف العسكرية. فوالدي كان يعمل مع قوات الاحتلال الأميركية في فيينا. وكانت أمي نمسوية وقد تربيت في القواعد العسكرية في أميركا وأوروبا». وشيرل امرأة نحيفة تبدو شابة مع بشرة بيضاء وشعر مجعد. ولها من خليل ولدان، الأكبر في الثانية والعشرين والأصغر في الرابعة عشرة.
عام 1975 ذهب خليل زاد إلى جامعة شيكاغو لإكمال دراسته لنيل الدكتوراه في العلوم السياسية. ويستذكر أوغسطس ريتشارد نورتن أحد زملاء خليل زاد وهو الآن أستاذ العلاقات الدولية في جامعة بوسطن: «لقد كان زاد ابن السبعينات وهو يرتدي الجينز وقصة شعره غير مرتبة. لقد كان يبدو مثل أحد المتطرفين في غرب بيروت في تلك الأيام».
في عام 1979 حصل خليل زاد على عرض للتدريس في قسم العلوم السياسية في جامعة كولومبيا. في كانون الأول من تلك السنة غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان. وكتب خليل زاد مقالات حول الحرب ضد السوفيات باستخدام اسم مستعار لحماية أفراد عائلته الذين كانوا لا يزالون في أفغانستان. وقال خليل زاد: «كتبت أن السوفيات قد ارتكبوا خطأ فادحاً بغزو أفغانستان بحيث بات في الإمكان إلحاق الهزيمة بهم. وقد كان ذلك ضد الحكمة التقليدية القائلة بأن السوفيات سيهيمنون على الأفغان...». وقد نالت هذه المقالات اهتماماً كبيراً في الأوساط الحكومية.
أصبح خليل زاد مواطناً أميركياً عام 1984، وبعد مدة قصيرة فاز بزمالة من مجلس العلاقات الخارجية الذي يهدف إلى منح الأكاديميين الخبرة العملية. «كنت أنوي القيام بذلك حول الحرب النووية في وزارة الدفاع. غير أن جورج شولتز وزير الخارجية آنذاك سمع بذلك وقال: لا. لا. لا. إنس موضوع الحرب النووية نحن نحتاجك هنا من أجل حربين: حرب العراق وإيران وحرب أفغانستان».
عمل خليل زاد مستشاراً براتب حول مشروع أنبوب الغاز، وخلال المفاوضات عبّر في شكل علني عن دعمه لطالبان. في عام 1996 وفي مقال افتتاحي ل «واشنطن بوست» كتب خليل زاد أن «طالبان لم تمارس أسلوب الأصولية الإسلامية المناوئة للولايات المتحدة التي تمارسها إيران – إنها قريبة من النموذج السعودي. إن هذه المجموعة تؤيد مزيجاً من قيم البشتون التقليدية ولها تفسير كلاسيكي للإسلام». كما التقى بمبعوثي طالبان في زيارتهما إلى هيوستن.
ويتذكر ريتشارد نورتن مشاركته في ندوة مع خليل زاد في ذلك الوقت. «إحدى القضايا التي ناقشناها كانت تدور حول إمكانية العمل مع طالبان وقد كان متفائلاً. لقد كان محقاً في الكثير من القضايا، إلا أنه بالتأكيد كان مخطئاً في ذلك».
أخبرني خليل زاد: «إن قضية أنبوب الغاز تلك في أفغانستان أصبحت أسطورة في كل مدينة. لقد تم توجيه السؤال إلي ليس من «أونوكال» بل من مركز بحوث الطاقة في كمبردج. ومن هناك برزت هذه القضية، إلا أنني في الغالب ذهبت باتجاه كمبردج. وخلال ذلك الوقت قمت بالشهادة بضع مرات حول أفغانستان أمام الكونغرس، وقد كنت منتقداً بشدة لطالبان».
قال خليل زاد إن ما غير فكره عن طالبان هو وحشيتهم وليس الصفقة الفاشلة. ولم يكن هو المسؤول السابق الوحيد المعني. وبطرق عدة، فإن مشروع الأنبوب النفطي مثّل الباب الدوار الكلاسيكي لواشنطن بين عالم الشركات ومؤسسة السياسة الخارجية.
وقالت شيرل بينارد: «بوسعك أن تنظر إلى الحياة السياسية لزاد وتجد أشياء تنتقدها. مثلاً أونوكال. ويقوم المحللون السياسيون خصوصاً إن كانوا خبراء إقليميين بتحليل المخاطر الخاصة بالشركات. لكن في حالة زاد، فإن ذلك انفجر في شكل لا يمكن السيطرة عليه، فهناك المواقع الإلكترونية والتقارير الإخبارية التي تحاول أن تحدد دوره مع أونوكال كتفسير للهجوم الأميركي على أفغانستان. إنه أمر مجنون».
بعد انتخاب جورج دبليو بوش عام 2000، أدار خليل زاد فريقاً انتقالياً في وزارة الدفاع خاصاً برامسفيلد. فقد أخبرني كين أدلمان من مجلس السياسة الدفاعية بقوله: «ربما اعتبره رامسفيلد ضعيفاً لأنه كان مبتسماً على الدوام وكان لطيفاً بالنسبة الى مهمة صعبة، وهذا ربما كان السبب وراء عدم حصوله على منصب نائب وزير الدفاع لشؤون السياسة، ذلك المنصب الذي كان يصلح له لكنه ذهب إلى دوغ فيث الذي كان غير محظوظ كما أصبح واضحاً في ما بعد (لقد لعب فيث دوراً رئيسياً في جمع المعلومات التي استخدمت لبناء قضية الحرب لدى الحكومة الأميركية). ذهب خليل زاد إلى مجلس الأمن القومي بدلاً من ذلك. وقال أدلمان: «لقد كان موظفاً غير بارز، لكن حين جاء الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، فتش الناس في ما حولهم وكان هو هناك».
في صبيحة الحادي عشر من أيلول كان خليل زاد في قاعة تقويم الموقف في البيت الأبيض حيث كانت كوندوليزا رايس تترأس اجتماعاً. «حين ضربت الطائرة الأولى كان لدينا إحساس بأنها قد ضلت طريقها. وحالما ضربت الطائرة الثانية تمت الدعوة إلى الاجتماع حيث اندفعت رايس. وخرجنا من البيت الأبيض إلى جادة بنسلفانيا وانتظرنا إلى حين تم تبليغنا بأن كل شيء آمن. وبينما كنا في الخارج كانت هناك مختلف الإشاعات والأقاويل بأن الكابيتول هيل قد ضرب ووزارة الدفاع قد ضربت. ثم بدأنا النظر إلى أفغانستان متعقبين القاعدة».
في الأيام التي أعقبت الحادي عشر من أيلول كان خليل زاد معنياً بالمناقشات حول رد فعل الإدارة الأميركية. قال خليل زاد: «كان أمراً مريعاً. لقد أدركت أننا سنعنى بحرب وأن أفغانستان ستكون مسرحاً لها. في تلك اللحظة تحددت حقبة ما بعد الحرب الباردة. فأفغانستان كانت هامشية بالنسبة إلى المصالح الأميركية ثم أصبحت مركزية بين ليلة وضحاها».
* غداً حلقة ثانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.