لعل وصف قصص زكي بيضون في كتابه «شلال يتدفق في نفسه» (دار الجمل) ب»الغرائبية» بحسب ما ورد على الغلاف، لا يعبر عن حقيقة التجربة التي يخوضها الشاعر الشاب في هذه القصص التي لا يمكن إدراجها أيضاً في خانة الكتابة القصصية الصرفة. الغرائبية أو الفانتاستيك بصفتها نوعاً سردياً، تتكئ عموماً على الحدث الخارق واللامعقول كما في قصص الجنيات والحكايات الخرافية التي اشتغل عليها الناقدان فلاديمير بروب وتزيفتان تودوروف ليستخلصا معالم الأدب الغرائبي أو الفانتاستيكي ومعاييره. يقترب زكي في نصوصه، كما ارتأى تسميتها، من هذا الأدب قليلاً ويبتعد عنه كما فعل مثلاً بورخيس. هذه النصوص تحفل بما هو «غريب» وغير مألوف أكثر مما تحفل بالغرائبي والعجائبي الذي يفوق التصور والخيال. إنها نصوص وليست قصصاً، ولو مال اثنان من هذه النصوص إلى الطابع القصصي وهما «اليقظة» و»السيد ك». هذان النصان يقدمان شخصيات عابرة أو طيفية انطلاقاً من الراوي الذي هو الكاتب. في الأول يحضر الراوي وطيف صديقته وطبيبها النفسي، ولكن ليس في سياق حدثي أو سردي واضح أو متنامٍ. فالراوي الذي يقصد الطبيب النفسي نزولاً عند رغبة الطبيب نفسه في شأن صديقته، يجعلنا نكتشف أنه مريض أو أنه هو المريض المصاب بآفة النسيان والتوهم. فهو لا يني يتحدث عن ضعف في ذاكرته «القريبة» وعن هلوساته التي جعلته يظن أن الباب يُفتح ويُغلق وحده و»كأن شخصاً خفياً خرج وصفق الباب وراءه». وعند دخوله بيت الطبيب أو عيادته يروي في طريقة إشكالية كيف أن الطبيب طلب منه أن يلقي التحية على صديقته الجالسة على الكنبة في الغرفة التي دخلها للتو، فنظر فلم يجد أحداً وظن أن في الأمر مزحة. وبينما يعلن الراوي أنه يلجم في داخله «حالة مرضية» يعترف أيضاً أن «المستحيل واللامرئي اقتحما حياته». وفي خلاصة تأمله في «مرضه» يكتشف أنّ «اللامرئي ليس مستحيلاً ومعناه أنني عاجز عن رؤية صديقتي»، ويعتبر أن حواسه «تتجاهل وجودها لسبب ما». لا أعتقد أن مفهوم القصة يمكنه استيعاب النزعة «الاستشباحية» (فانتاسماغوري) في هذا النص الجميل والغريب الذي يقبل على الواقع من وجهة الهلوسة وهي ما يسميها الرسام سلفادور دالي صاحب كتاب «بارانويا كريتيك» ب»سعار التدمير». في النص الثاني ذي المزاج القصصي «السيد ك»، يسرد الراوي الذي يعمل في دار العجزة وتحديداً مع مرضى ألزهايمر تعرفه إلى عجوز يسميه السيد ك كان قضى حياته عاملاً في دار العجزة نفسه الذي يقيم فيه الآن بعدما أصبح عجوزاً، وقد حصل على سعر مخفض لكونه موظفاً سابقاً. يكتشف الراوي-الممرض أن السيد ك يعاني حالاً من السكيزوفرينيا تجعله يتلبس شخصيات عدة، ولكن تحت الاسم نفسه. فهو كما يعترف، لا يتذكر من كان. أما المفاجأة فتتمثل في كون الراوي هو السيد ك نفسه: «حينما ودعتني الممرضة اكتشفت أنها اقتادتني إلى غرفة السيد ك بدلاً من إحدى الغرف الفارغة التي ينام فيها الموظفون عادة. انتبهت لغياب السيد ك وشعرت عندها بأن الأرض ستنهار من تحت قدمي. في لحظة من الوضوح نظرت إلى المرآة الكبيرة بجانب السرير ورأيت وجه السيد ك». النصوص الأخرى تبدو خلواً تماماً من الشخصيات والأحداث وهي نصوص حلمية أو كابوسية أو هذيانية تبدو الذات أو العالم الداخلي أو الجسد مصدرها الرئيسي. ومن خلالها يطرح بيضون مقاربة جريئة ومتميزة لكتابة تنحو منحى التدمير والتشريح، مذكراً ببعض التجارب في «أدب القسوة» ومن روادها لوتريامون وأنطونان أرتو وجوج باتاي ورينه كروفيل لا سيما في كتابه «أنا وجسدي». وقد يمكننا هنا تذكر الرسام الرهيب فرنسيس بيكون الذي فتك بالجسد الإنساني. في نص «أعضاء غير مرئية» يعمد الراوي متوجساً أو مهلوساً إلى تدمير جسده وتمزيقه. فبينما كان مستلقياً على ظهره منتظراً «الغفلة أو الانكفاء إلى داخل الذات»، يشعر أن ثقلاً يجثم على صدره ويخنقه ثم يقول: «ادخل يديّ في جسمي وأرفع قفصي الصدري». ثم يكتشف أن «لديّ أعضاء كثيرة غير مرئية لم ألحظ وجودها سابقاً» وليست هذه سوى «امتداد لا مرئي لأعضائي المرئية». ويبدأ جهاراً في «التهام نفسه» كما يقول. وهنا يكتب بيضون أجرأ ما يمكن أن يُكتب في هذا الصدد: «أقحم يدي في كبدي فأشعر بسوداوية انتحارية، أسحب أمعائي بتأن، أقحم يدي في دماغي فأشعر بألم حاد». وكما قال رينه كروفيل في كتابه المذكور سابقاً: «لماذا جسدي، هذا الحِمل من اللحم، يدفعني للسقوط مرة أخرى في عمق الهاوية...؟» يقول بيضون: «أسلم نفسي للهاوية ويهوي كل شيء معي». في نص «فمي الجديد» يرى الراوي لحظة استيقاظه فجراً ضفدعاً غريباً عند نافذته، وعندما يهم في التثاؤب يُفاجأ بأنه عاجز عن فتح فمه. يتحسس فمه فلا يعثر عليه ثم يكتشف مذعوراً أن فمه خرج من وجهه واستحال ضفدعاً هجيناً. وفي «الملاك الساقط» يعيش الراوي تواتر أحلام الطيران لديه. في بضعة أحلام كان يحلق فوق رؤوس الآخرين في الشارع والأماكن العامة وكانت أنظار هؤلاء المبهورة تشعره بالنشوة. وفي أحلام أخرى كان يرتفع في التحليق ليصل إلى الغيوم ثم يستمر محلقاًَ حتى يصاب بالذعر فيستيقظ أو «يسقط» في معنى ما. لا تغيب النزعة الكابوسية القائمة على الهجس الانفصامي والبارانوياني، ما يؤكد توغل النصوص في الذات اللاواعية، الذات التي هي الكائن في كافة نوازعه. في نص «بارانويا» يشعر الراوي بأنه مراقب حتى عندما يكون وحده، وأن الآخرين يقرأون أفكاره. ويصاب بهلع حشرة «الأمّ أربع وأربعين» وهذه ذات دلالة معروفة في التحليل النفساني، بما تحمل من رعب توهّمي شديد. وهنا نتذكر الهذيان الكافكاوي الذي جعل غريغور سامسا في «التحول» ينقلب حشرة. وفي نص «داخل نقطة» ينكمش حضور الراوي داخل نقطة تبدو كأنها سجنه الذي لم يعرف كيف وصل إليه. يدخل زكي بيضون في نصوص «شلال يتدفق في نفسه» متاهة أدبية لا يجرؤ على دخولها عادة إلا «المصابون» وفق عبارة أنسي الحاج في مقدمة «لن». نصوص جريئة، حلمية، كابوسية، أبوكاليبسية، هذيانية، صوفية ولكن غير دينية، عنيفة ورقيقة، تستحضر أعماق الذات الإنسانية في حالاتها الصافية الأولى، كما في حالاتها المعتكرة والمضطربة. نصوص تشبه صاحبها، هذا الشاعر الذي يقتحم عتمات المجهول ليخرج من جوف «الجحيم» (رامبو) حاملاً إلينا ما يسميه «نوراً ساطعاً يتدفق فيّ ويجرفني».