شائع في أوساطنا الثقافية والسياسية إقامة تطابق بين النزعة المحافظة وبين الدين عموماً، الإسلام بخاصة في مظاهره الفكرية والسلوكية والحركية. لكن إذا اصطلحنا على أن النزعة المحافظة تعني تفضيل الاستقرار على التغيير والميل إلى إبقاء الأحوال القائمة باعتبارها الأصلح، فإن النزعة المحافظة الإسلامية صيغة واحدة فحسب من صيغ عدة تتغاير تعبيراتها السياسية والأيديولوجية. يمكننا التكلم على نزعة محافظة تقليدية أو أهلية، تتمثل في التمسك بالعوائد المستقرة وأنماط الحياة المألوفة والمواظبة على تقليد «ما وجدنا عليه آباءنا». والسمة الغالبة للنزعة المحافظة الأهلية أنها متجردة من أية مبادئ عامة أو أفكار مجردة. وهي لذلك سمة البيئات التقليدية والأوساط الأدنى تعليماً ودخلاً في الأرياف والمدن. ويتعين تمييز هذه النزعة المحافظة التقليدية عن المحافظة الإسلامية العالِمة التي قد تنطبع بالأحرى بالتمرد على الأحوال القارة، وغالباً ما تكون تغييرية سياسياً. وإلى هاتين يسعنا التكلم على نزعة محافظة سياسية، تميل إلى تثبيت الأوضاع السياسية القائمة وممانعة تغييرها. ومن المفهوم أن يشيع هذا الضرب من المحافظة في أوساط نخب السلطة وجمهور متنوع من مستفيدين لديهم ما يخسرون إن تغيرت الأوضاع القائمة. وفي بلداننا تقترن النزعة المحافظة السياسية بالاستئثار بالسلطة العمومية، وباستعداد مجرب لممارسة القمع ضد أي خصوم يعملون من أجل التغيير. وكذلك بالإعلاء من شأن الاستقرار والأمن و«الوحدة الوطنية». وقد نميز أخيراً نزعة محافظة رابعة، حداثية أو نخبوية، تدافع عن أنماط حياة تشعر أنها مهددة من عامة غير حداثية. وفي السياق الثقافي والسياسي العربي في ربع القرن الأخير تعرف النزعة المحافظة النخبوية نفسها بالتقابل مع الإسلاميين بخاصة، وإن ليس حصراً. *** أما النزعة المحافظة الإسلامية فهي واعية بذاتها، تصدر عن مبادئ عامة الإسلام، وتعمل على أن ينضبط المجتمع الكلي بها. في هذا هي حداثية التكوين، إذا عرفنا الحداثة بأولوية الفكرة أو المبدأ المجرد على العرف والعادة والتقليد. على أن محافظة الإسلاميين ذات منزع نضالي أو ثوري. وهي تصدر عن مثل وتعاليم مقررة سلفاً، وتعمل على تطبيقها بوسائل السياسة، بما فيها الإكراه. فالإسلاميون محافظون ثقافياً واجتماعياً وسلوكياً، لكنهم تغييريون أو ثوريون سياسياً. ولا ريب في أن لازدواج الظاهرة الإسلامية المعاصرة هذا دوراً في بروز النزعة المحافظة النخبوية في العقود الأخيرة. على عكس الإسلاميين تماماً، هذه تغييرية اجتماعياً وثقافياً ومحافظة سياسياً. وهي إن كانت تعرف نفسها بدلالة الإسلاميين، فلهذا السبب بالذات. على أننا نخطئ إن ظننا أن النزعة المحافظة النخبوية مجرد رد فعل على الإسلامية أو نقيض لها. في بعض أصولها، النزعة النخبوية هذه أوثق صلة بمنابت أرستقراطية حقيقية أو متخيلة وبجذور عائلية منها بأية مبادئ عامة. من الخرافات الشائعة أن هناك شيئاً اسمه «الحداثة» وشيئاً آخر اسمه «الإسلام»، وأنهما مثل الماء والزيت لا يختلطان. هذه الخرافة بالذات هي ما ينتحله مثقفون ومفكرون يموهون به حكاياتهم العائلية وأصولهم الخاصة، التي لا يندر أن تختلط فيها الطبقة الماركسية، باعتبارات النسب، وأحياناً بالعِرق. والحداثة هي المبدأ الرفيع الذي يحجب أساطير الأصول هذه، ويضفي على نوازع التفوق والاستثناء شرعية عامة. نلح على هذه النقطة لأنها تموه كثيراً وتغفل. نريد القول إن الأصل الغالب للنزعة المحافظة الحداثية هو شيء متصل بالطبقة أو بالوضع الاجتماعي عموماً، بما في ذلك ما يحيل إلى النسب والحسب. الحداثة طيبة بالضبط لأنها توفر الالتباس المناسب بين تطلع تقدمي إلى تجاوز القدامة الاجتماعية الدينية وبين تلهف امتيازي على الانفصال عن العامة وجمهور الفاشلين المتخلفين. من هنا تنبع الحاجة إلى عقيدة تقول بتمايز جوهري وتكويني ودائم بين «الحداثة» و «الإسلام»، تكاد تكون كل مضمون العقيدة الحداثية لدينا اليوم. لكن معنى هذا الكلام يكمن في وظيفته: الفصل الاجتماعي بين الممتازين والعوام. لا يسهل على أحد القول بوجود تمايز جوهري وتكويني ودائم بين النخبة والجمهور العام. يبقى أن لا لزوم لافتعال مفارقة بخصوص اجتماع النزعة المحافظة والحداثة. هذا الاجتماع أكثر من مبتذل. وقد تكلم ياسين الحافظ على أحد تجسداته منذ الأيام الباكرة للحرب اللبنانية. *** ربما نلاحظ أن لدينا ثلاث نزعات محافظة «ثورية» وواعية جداً بذاتها أو عالمة، وواحدة فقط تقليدية ومفتقرة إلى الوعي الذاتي. المحافظة الإسلامية تتوسل المعتقد الإسلامي المضبوط والاعتراض السياسي أو العنفي لفرض تطلعاتها. لا يستقيم لها ذلك من دون تقرير إسلامية الأمة، بحيث يكون التغيير المرغوب بمثابة عودة الأمة إلى ذاتها. وتتوسل المحافظة السياسية الدولة العامة وأجهزتها لحماية الأوضاع القائمة ومنع تغيرها. فيما تفضل المحافظة النخبوية الحداثة عقيدة، بالضبط لأنها «الخير العام» لعصرنا. فإذا كان تقديرنا صحيحاً، فإن الوعي الذاتي للنزعات المحافظة الثلاث مزيف وقائم على التدليس. في خلفية المبادئ العامة ثمة مصالح وأفضليات متنوعة، هي ما تحتاج إلى مبادئ عامة رفيعة تحتجب خلفها: الإسلام، الدولة، الحداثة. وهي السبب في شحن هذه المدركات بطابع امتيازي ناف للمساواة. ليس إسلام الإسلاميين دينهم الخاص، بل هو الدين العام السيد بحكم جوهره وشرفه الذاتي. وليست الدولة مقراً للعام الوطني، بل هي سلطة مشخصنة تطور وجهاً امتيازياً يحيل إلى مكانة أرفع للحاكم، إلى سمو ذاتي له بحيث يكون الأب العام (وهذا أساس السلالية)؛ وليست الحداثة قواعد عامة معقلنة أو نزع السحر عن وجه العالم، بل هي سحر جديد، وقاعدة امتياز نخبة اجتماعية متفوقة. نريد ان الإسلام والحداثة والدولة مدركات سياسية، مسيسة وملعوب بها، وأن على التفكير النقدي تالياً هتك المظهر العام الحميد لها وإظهار ما تحجبه من استثناءات وامتيازات خاصة لا تقبل التعميم. ويبدو أن السمة العامة لتطورنا الاجتماعي والثقافي والسياسي في السنوات الأخيرة هي تدهور المساواة وأيديولوجيات المساواة، وعودة منطق الامتيازات والشرف والأرستقراطية إلى المجتمع والدولة والثقافة. يريد الإسلاميون أن يحكموا الجميع وفق حق يقررونه ذاتياً من دون أن يناقشوا أحداً، ومن دون الانضباط بمنطق عام. ويعرض المثقفون النخبويون تلهفاً وراء الامتيازات والشهرة والنجومية، وانعداماً لشواغل المساواة والمشاركة مع آخرين والتعاون في شؤون عامة. ويحوز الحكام السلاليون السلطة والشرعية معاً لشرفهم ورفعة شأنهم. وراءنا صارت أيام الديكتاتورية العسكرية أو الحزبية، والأيديولوجيا الوطنية المساواتية. في المحصلة، لدينا نزعات محافظة متنوعة، لكن ليس بيننا اليوم من هم غير محافظين. هذا سيئ. الجيد الوحيد فيه أنه يشبهنا أكثر.