أحد الشباب من ذوي التأهيل المتوسط – ثانوية عامة إضافة إلى دورة في اللغة الإنكليزية ودبلوم الحاسب الآلي – بعد أن أعيته الحيل وطرق جميع الأبواب واستنفد ما يستطيعه من محاولات للحصول على قبول في إحدى الكليات الجامعية ذات المستقبل الواعد ولم يتمكن من تحقيق رغبته... تقدم هذا الشاب أخيراً إلى إحدى الشركات الوطنية اسماً وموقعاً، والتي تموج بالعمالة الوافدة شبه السائبة والمترهلة من مختلف الملل والنحل واللغات والسحنات – عينات من جميع الأمم والشعوب – تقدم يطلب إحلاله بدلاً من أحدهم أو بجانبهم ليكون بينهم على الأقل كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود – في وظيفة تتناسب مع مؤهله ولتلبي بعض حاجته الملحة كشاب في مقتبل العمر، أي في الحد الأدني من عوزه بدلاً من أن يلوك البطالة والفراغ بين أربعة جدران يكون فيها عالة على أهله والده ووالدته أو شقيقته إن كانت معلمة... دخل صاحبنا إلى مبنى الشركة الفخم الذي يعج بالصخب ويموج بالغادي والرائح بين أدواره المتعددة وغرفه الكثيرة وصالاته المكتظة، سأل عن المسؤول المباشر المختص بالتوظيف، وحار ودار، فالوجوه غريبة والسحنات مختلفة واللغات متنافرة والعيون من حوله ترمقه كجسم غير مألوف بينهم بلباسه الوطني المميز فأصبح في موقف لا يحسد عليه. واهتدى أخيراً إلى مسؤول العلاقات العامة ووجده هو الوحيد من أبناء جنسه – يضاف إليه أحياناً (معقب الجوازات) وبعد سؤال وجواب أخذه إلى أحد المسؤولين المتنفذين من إحدى الجنسيات، وبعد انتظار طويل وممل سأله المسؤول الوافد بسؤال يبدو فيه الاستخفاف عن بغيته فأجابه الشاب بأنه يلتمس عملاً مناسباً. فرد عليه وما مؤهلاتك وخبراتك؟ فقال له إنني كما ترى أملك الإرادة وعندي الرغبة الصادقة في العمل وستجدونني عند حسن ظنكم والتجربة أكبر برهان، أما المؤهلات فإنني حاصل على شهادة الثانوية العامة مع دورات في الحاسب الآلي واللغة الإنكليزية، وعندما انتهى من كلامه لاحظ ابتسامة صفراء أقرب ما تكون إلى التكشيرة المفتعلة من هذا المسؤول أعقبها بعد أن احتسى بقية القوة التي بين يديه قائلاً عندنا لك وظيفة مناسبة وسهلة وليست فيها مسؤولية، فرد عليه الشاب والابتسامة العريضة تغمر محياه والدنيا لا تسعه من الفرحة وما هذه الوظيفة وما واجباتها ومتى سأباشر العمل؟ قال سنعطيك راتباً أساسياً مقداره 1500 ريال وبدل مواصلات 400 ريال وعلاجك مجاناً عدا العمليات الجراحية وعلاج الأسنان وسننظر في تحديد العلاوة السنوية بعد التجربة وبعد أن يمضي عام على بقائك على رأس العمل، وظيفتك شرفية ولا تحتاج إلى جهد والدوام لا يزيد على ثماني ساعات فقط، فسأله وما واجبات عملي وأنا كما ترى أرغب في زيادة خبرتي في عمل أفيد وأستفيد منه في الحاضر والمستقبل. هنا أجابه المسؤول: وظيفتك تلبس لباسك الوطني ونضع لك مكتباً في مدخل المؤسسة وتظل مرشداً لمن يسأل عن الأقسام بعد أن تتعرف على المسؤولين في المؤسسة وتعرف نفسك بأنك تعمل في إدارة الشؤون العامة. وقت فراغك تحتسي القهوة والشاي من البوفيه الخاص بموظفي المؤسسة وتطلب نفس الشيء للأشخاص المنتظرين وتظل قائماً وقاعداً تذرع الممرات والأدوار لتعطي وهجاً ملفتاً لزوار المؤسسة بأننا نهتم بالشباب الواعي أمثالك... إلى هنا يقول هذا الشباب بأنني قبلت العرض على مضض لأن البديل هو البطالة والتهميش وأين يكون صوتي مع هذه الكثرة الهائلة من العمالة الوافدة المتنفذة والمسيطرة على مقدرات مثل هذه المؤسسة، وما ساعدني وشجعني على قبول العرض هو حتى لا أعطي فرصة للشامتين ممن يسمون رؤساء شركات ومؤسسات من بني جلدتي الذين يرددون صباح مساء وفي كل وقت وفي كل صحيفة معزوفة أن المواطن لا يرغب في العمل ولا يتحمل المسؤولية غير مدركين ولا مهتمين بما يلقاه من تهميش ومحاصرة وانتزاع الثقة منه وحجب الخبرة والتدريب عنه. ومن الأدلة على ذلك تلك الرواتب والمكافآت الهزيلة التي ننفرد بها... ولكن ما أجمل الصبر على كيد وظلم الشامتين من ذوي القربى! وختم هذا الشاب حديثه قائلاً: «إنني علمت فيما بعد أن راتبي الشهري وزميلي المواطن مدير العلاقات العامة ومعه معقب الجوازات والمسؤول عن تعقيب المستخلصات المالية للمؤسسة في الدوائر الحكومية والأهلية مجموع راتبنا الشهري لا يصل إلى المبلغ الذي يتقاضاه شهرياً أحد رؤساء الأقسام من العمالة المتجذرة الوافدة، والتي لا تقوم بأي عمل خارق، أضف إلى ذلك أنه يتم منحها بدل سكن وكلفة دراسة أبنائها في الداخل والخارج وتذاكر سفر وبدل علاج شاملاً وغيره، بينما يتم حرمان الموظف الآخر من ذلك لمجرد أنه مواطن، وهكذا تنعكس المبادئ والمفاهيم؛ فيتم استقدام العاطلين وحرمان المواطنين». ِ[email protected]