على رغم قناعتي التامة بأنّ الشيخ عبدالمتعال الصعيدي (1313ه- 1895م/ 1391 ه- 1971م) يُعد صاحب اتجاهٍ مميز في الإصلاح والتجديد، وأنه قام بالعديد من الجهود الجبارة في سبيل إصلاح الأزهر، وإحياء فكرة فتح الاجتهاد من جديد، إلا أنني كلما رجعت لقراءة عمل من أعماله اشتد بي الإحساس باضطراب عام حول تصوراته وذلك لجهة تحديد مقصوده بكل من الإصلاح والتجديد أولا، وتعيين المجالات التي يشملها هذا الإصلاح وذلك التجديد ثانياً، وتوضيح المعيار الذي يحكمُ من خلاله على عطاءات وإسهامات الآخرين فيدخلهم في إطار المجددين أو يخرجهم منه ثالثاً. والواقع أنّ العنصر الأخير هو الذي زاد من قناعتي تلك بوجود خلل منهجي في تعاطي الشيخ مع بعض مسائل الإصلاح والتجديد من جهة، واختياره الشخصيات الممثلة لطائفة المجددين في الإسلام من جهة أخرى. على أنني لا أتابع في حكمي هذا تلك الأحكام الجائرة التي أطلقها أعداء الإصلاح بالأزهر في مواجهة الشيخ، كما لا أتأثر كذلك باختلافي معه في بعض المسائل الجادة التي أدلى فيها بدلوه بطريقة حادة: كموقفه من مسألة إقامة الحدود، ورأيه في الناسخ والمنسوخ، وقوله بجواز تجسيد الأنبياء في الأعمال الفنية، وإدراجه أتاتورك من ضمن المجددين في الإسلام...إلخ. لذا فإنني من أجل أن أتحقق من صحة قناعتي هذه، عمدت إلى إعادة قراءة كتابه «المجددون في الإسلام» حتى أقف على معيار الإصلاح والتجديد الذي بنى في ضوئه تحديد هؤلاء المجددين، فلاحظت مجموعة من الأمور: أولاً، وفي ما يتعلق ببناء الكتاب وبنيته، حرص المؤلف على أن يُحدد مقصوده بالتجديد في أول كتابه وذلك تحت العناوين التالية: «الإسلام والتجديد»، «حديث مجددي المئتين»، «الاختلاف في المجددين». ثم تتابعت بعد ذلك فصول الكتاب بالحديث عن مجددي كل قرن هجريّ على حدة ابتداءً بالقرن الأول وانتهاءً بالحديث عن مجددي القرن الرابع الهجريّ. وفي كل فصل من هذه الفصول يتحدث الشيخ أولا عن «حال العالم الإسلامي» إبان هذا القرن، ويقارنه بحال أوروبا في القرن ذاته، ثم يبدأ بذكر مجددي القرن بالحديث عن نشأة المجدد وأهم العوامل التي عاصرها، كما يسجل اتفاقه أو اختلافه مع مصنفي هذا الباب من التصنيف بخاصة السيوطي وابي الفرج الجوزي من القدماء، وأحمد أمين في كتابه «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، ومحمد رشيد رضا في مقدمه «تاريخ الأستاذ الإمام» من المحدثين. فبعد أن ناقش الشيخ فكرة اقتصار الإسلام لدى البعض على أداء العبادات، ذهب ليؤكد أنّ وظيفة الإسلام الكبرى تكمن في محو أمية الأمم، والنهوض بالإنسانية في العلم والدين وفي هذا يقول: «والإسلام من جهة هذه الغاية يتسع للتجديد في كل زمان، لأنه إذا كانت غايته النهوض العام بالإنسانية فوسائل هذا النهوض تسير في طريق الارتقاء، ولا تقف عند حد محدود لا تتعدله [كما الشأن في العبادات]».وعلى هذا الأساس العام يبحث الشيخ تاريخ المجددين في الإسلام، ويدرسه على أنه بمثابة «تاريخ نهوض المسلمين في أمور دنياهم قبل أن يكون تاريخ نهوضهم في أمور دينهم». ولا ينسى الشيخ أن يبرز اختلاف المؤرخين والعلماء في تحديد المجددين، حيث يهتم بذكر آراء كل من: الحافظ بن كثير، والحافظ السيوطي، وصاحب كتاب عون المعبود في شرح سنن أبي داود، ومحمد رشيد رضا. وحينما شرع في تحديد مجددي القرن الأول الهجريّ بدأ بأبي بكر الصديق وسائر الخلفاء الراشدين، فالحسين بن علي، فخالد بن يزيد بن معاوية واللافت للنظر في هذا السياق أنّ الشيخ لم يدرج معاوية ضمن المجددين لأنه تولى «الحكم بعد أن نازع عليّاً بالسيف، وسنّ في الإسلام هذه السنّة الرجعية، وقد مكث في الحكم نحو عشرين سنة، ثم خلفه ابنه يزيد». وبطبيعة الحال، فإنّ عدم إدراج معاوية من ضمن المجددين أمر مفهوم تماما، لكن ما يصعب فهمه على الإطلاق هو إدراج خالد بن يزيد بدلا عنه! وهو ما يدعو للتساؤل حول ما يميز خالدا هذا حتى عن أخيه معاوية [الشهير بمعاوية الثاني] الذي «زهد الملك، ونظر إلى ما تحمله أبوه [يزيدُ من وزر قتل الحسين] وجده [معاوية] فيه فازداد فيه [الملك] كرهاً، فجمع الناس ليرد أمرهم إليهم، ويعتزل الحكم ليجعله شورى فيهم، فطلبوا منه أن يولي عليهم أخاه خالدا، فقال لهم: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فلا أتقلد وزرها»؟! أليس من الإنصاف والعدل أن يكوه هذا الخليفة الزاهد في الخلافة، الراغب في إعادة الأمر شورى بين المسلمين، والقضاء على السنة السيئة التي ابتدعها أسلافه أولى بأن يكون من المجددين؟ ألا تفوق رغبته في إصلاح نظام الحكم في الإسلام – بغض النظر عن نتائجها- ومحاولته رد الأمور إلى سيرتها الأولى، ما قام به خالد بن يزيد ليصبح في عداد المجددين؟! الحقيقة أنّ المؤلف قد اختار خالداً ليكون من مجددي القرن الأول الهجري لسبب وحيد، ألا وهو أنه ورث حب المعرفة عن جده معاوية «وأربى عليه بالميل إلى علوم الحكمة. لأنه لم يجد من أمور الملك ما يشغله مثله، أو يصرفه عن التوسع في هذه الناحية. فسبق المسلمين جميعا إلى أهم ناحية من [نواحي] التجديد»!! وعلى ما في هذا القول من تطرف؛ إلا أنه يفسر لنا سرّ وجود أسماء لم تكن لها من بضاعة التجديد – وفق المعنى الواسع الذي نفهم به الإصلاح والتجديد- إلا انشغالها بعلوم الأوائل، بل وانصراف أغلبها عن علوم الدين، إن لم نقل انسلاخ بعضها عن ربقة الإسلام!! فوفق المعيار السابق إذاً استبعد المؤلف شخصيات كبرى في تاريخ التجديد إبان القرنين الأول والثاني الهجريين كالحسن البصري، وعبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري، وواصل بن عطاء... وغيرهم. ومن ثم لم يشفع للحسن البصري ولا لواصل بن عطاء الاشتغال بعلم الكلام وقولهما بالقدر! في أن يندرجا ضمن مجددي الإسلام بحسب الشيخ الصعيدي! ومن ثم فإننا نفهم بذلك الاستبعاد إقصاء علم الكلام والمشتغلين به من إطار التجديد! أضف إلى ذلك أيضا، استبعاد المؤلف للتصوف والمتصوفة كذلك من إطار التجديد، وعلى نحو أكثرَ تطرفاً من بعض السلفيين!! ففي حديثه المعتاد عن حال العالم الإسلاميّ في بداية كل قرن هجريّ، لم يغب عن ذهن المؤلف ولو لمرة واحدة أن يُحمِّلَ التصوف والمتصوفة وزر انتكاسة الأمة الإسلامية حتى وهي في أوج مجدها!! ففي حديثه عن حال العالم الإسلامي إبان القرن الثاني الهجري يؤكد المؤلف أن هذا القرن شهد ظهور نكستين رجعيتين أولاهما: ظهور نظام الطبقات بين المسلمين، والثانية: ظهور جماعة مُسرفة في التدّين تُسمى بالصوفية نتيجة إسراف الملوك والأمراء والعظماء في مظاهر الغنى! الغريب في الأمر، أنّ الشيخ قد أدرج معروفاً الكرخيّ ضمن طبقات المجددين، وحجته في ذلك أنّ الزهاد من أمثال معروف «رأوا الإسلام قد أدركه البلى بتنازع المسلمين على الدنيا، فأرادوا أن يُجددوه بإعراضهم عنها، وهذا ما يمكن أن يوجَه به عَدُّ معروف من مجددي القرن الثاني من الزهاد»! ولاشك أنّ حجته في ذلك صحيحة مئة بالمئة – بالإضافة إلى أسباب أخرى لم يذكرها بالطبع- ومن ثم كان انتقادنا الموجه ضد استبعاده رجال الصوفية من طائفة المجددين بحجة مبالغتهم في الفقر والزهد! ومع ذلك، يأبى المؤلف إلا أن يُنغّص علينا فرحتنا هذه حين يعود من جديد لينقض تماماً ما سبق أن قاله منذ قليل، وكأنه يستكثر على نفسه عد الصوفية ضمن طبقات المجددين! يقول في ذلك: «والحق أنّ أولئك المتصوفة على الخصوص لا يصح أن يُعدّ واحد منهم في [عِداد] المجددين في الإسلام. لأنّ مذهبهم في التصوف إماتة للدّين، والإماتة للدّين لا تكونُ تجديدًا له، ولا يصح أن يُذكر مَن يدعو إليها بين مَن يدعو إلى التجديد، وإذا كنتُ قد ذكرتُ أنهم لما رأوا الإسلام بُلي بتنازع المسلمين على الدنيا أرادوا أن يُجددوه بإعراضهم عنها، فقد ذكرتُ هذا على أنه احتمالٌ لتوجيه عَدّ معروفا الكرخي بين مجددي هذا القرن، وهذا [الذي أقوله الآن] فيه ما فيه من تضعيف هذا الاحتمال ومن الإشارة إلى أنه [الاحتمال] توجيهٌ غير مقبول»!! أرأيتَ مدى التناقض الذي يقع فيه الشيخ، ومدى اللبس الحاصل في ذهنه في شأن التصوف وتحويله عملية إحياء الدين إلى إماتة للدين؟ وإذا كانت قناعته الخاصة على النحو الأخير فلم عد كلا من: الكرخي، والغزالي، وابن عربي، من المجددين؟ ألا يكون في ذلك خروجا عن المبدأ والمعيار الذي ارتضاه لنفسه؟! حقيقة القول إنّ الشيخ قد خرج عن معياره هذا أكثر من مرة، وإذا كانت مسألة موقفه من التصوف والمتصوفة تحتاج إلى توسع أكبر، فإنني آمل أن يتاح لي الوقت مستقبلاً لبحث موقفه هذا في دراسة موسعة، لأن مواقفا كهذه جعلت الإصلاحيين الجدد الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن العشرين يغفلون عن الاهتمام بهذا الجانب الروحيّ العميق، مكثفين جهودهم على الجوانب العقلية والسياسية والتكنولوجية ظنا منهم أنّ التمكن من هذه الأمور كفيل بتحقيق النهضة المنشودة! وهو أمر أقل ما يقال عنه أنه غير صحيح على الإطلاق بدليل أنّ بعض مجتمعاتنا العربية قد حازت بالفعل أعلى التقنيات الحديثة، ولديها الكثير من الإمكانات المادية الهائلة، والثروات الطبيعية المتراكمة، ومع ذلك فإنها لا تزال بعيدة كل البعد عن «النهضة» بمعناها الشامل، نهضة العقل والروح معاً. وكما عد المؤلف خالداًُ من المجددين، عد يوسف بن عبد المؤمن من ملوك الموحدين أيضاً ضمن مجددي القرن السادس الهجري، فقط لأنه «عرف للفلسفة قدرها في هذا القرن، ولم يؤثر فيه تألب ملوك عصره وعلمائه عليها، بل خرج على جمودهم، وأعاد للفلسفة مكانتها في دولته، ووصل في تجديدها مالم يصل إليه مَن قبله»!! وفي الوقت الذي استكثرَ فيه المؤلف عدّ الغزالي من المجددين لانشغاله بالتصوف، اختار ابي الفرج الجوزي من المجددين بسبب كتابه تلبيس إبليس الذي «وقف فيه موقفا يجب أن يُذكر له في هذه الناحية من التجديد، إذ وفىّ القول حقه في أمرهم [الصوفية]، ونطق بحكم الدّين في تصوفهم». وكذلك كاد المؤلف أن يستبعد الشيخ زكريا الأنصاري من مجددي القرن التاسع بسبب نزعته الصوفية. وقد استبعد بالفعل جلال الدين السيوطي لنفس السبب! واختار بدلا منه ألوغ بك «لأنه كان ملكا يمثل في مُلكه عصرَ المأمون في العباسيين»! كما استبعد كلا من: محمد بن علي السنوسي، والأمير عبد القادر الجزائري بحجة أنّ «ما أخذا به من التصوف لا ينهض بالمسلمين، وأنه كان نكسة من النكسات الرجعية التي أخرت المسلمين في دينهم ودنياهم» ويستطرد قائلاً: «وهذا لا شأن له بالجهاد العظيم الذي قام به الأمير عبد القادر، ولا بالإصلاح الذي قام به السنوسي في حدود التصوف بين أهل برقة وطرابلس بالمغرب»!! والواقع أنّ بعض ما سبق يمكن فهمه في سياق خط ومنحى ومسار التجديد الضيق الذي ارتضاه المؤلف لنفسه، لكن مالا يمكن فهمه على الإطلاق أن يُدرج المؤلف شخصية كشخصية ميرزا علي محمد (المسمى بالباب) ضمن طائفة المجددين «في الإسلام»! رغم ادعائه أنّ أحكام الشريعة المُحمدية قد نُسخت بظهوره، وأنّ اشتغال الناس بالعبادات وسائر ما أتى به النبي (عليه الصلاة والسلام) كله عمل لغو! وخضوع الأقاليم السبعة المسكونة له ... إلى غير ذلك من الخرافات والخزعبلات التي يرفضها الدين والعقل معا، فايّ تجديد هذا الذي يدعو الناس لأن يُمزقوا الحجاب الحاجز بينهم وبين نسائهم، وأن يُشاركوا بعضهم البعض في الأموال، وأن يأخذوا حظهم من الحياة الدنيا فإنه لا شيء بعد الممات؟! * كاتب مصري