نشرت وزارة الخارجيّة الروسيّة وثيقة تحمل عنوان «برنامج تفعيل السياسة الخارجية لتطوير أسس روسيا الاتحادية الاستراتيجية». والوثيقة هذه علامة على انعطاف كبير في السياسة الخارجية الروسية. وهي تعرض سبل التعاون مع بلدان العالم، وتربط تطوّر روسيا بمساعدة الغرب لها. ويدعو مشروع السياسة الخارجية الروسية الجديد الى الشراكة مع العالم الغربي. والتقارب أخيراً مع بولندا هو خطوة على طريق الشراكة مع الغرب. والى وقت قريب، اضطر رجال الأعمال البولنديون الى مخاطبة الحكومة الروسيّة بواسطة فلاديمير ستارجالكوفسكي، مدير عام شركة التعدين «لنيكل نوريلسك» المقرب من بوتين والمتحدّر من جذور بولندية. ولكن رئيس الوزراء الروسي، فلاديمير بوتين، فاجأ الجميع، وأصدر توجيهات الى وزارة الخارجية تطالبها بتغيير سياستها 180 درجة ازاء بولندا. فنُظمت ذكرى مأساة مجزرة كاتين على مقربة من سمولينسك. ثم شاءت الظروف أن تتحطم طائرة الرئيس البولندي، ليخ كاتشينسكي، على نحو مأسوي في سمولينسك. وطوت الحادثة هذه العداوة الروسية - البولندية. ولكن علاقات موسكو ببولندا ليست سوى شطر من فسيفساء السياسة الخارجية الروسية الجديدة. وهي مرآة جانب متواضع من نظرة الكرملين الجديدة الى العالم. وهي تريد ابراز عزم روسيا الفعلي على انتهاج سياسة خارجية تتخفف من قسمة العالم الى أصدقاء وأعداء، وتنظر اليه من وجهة مصالحها فحسب. وتولي السياسة الخارجية هذه الأولويّة للتحديث الاقتصادي وحل مشكلاته من طريق التعاون مع الغرب. وتدعو الوثيقة الى جني مكاسب اقتصادية في دول بحر البلطيق، والى تصدر المصالح الاقتصادية اولوية العلاقات بالدول المارقة المقربة تقليدياً من روسيا. وسورية وإيران وكوبا وأوزبكستان وأرمينيا وصربيا مدعوة الى منح الشركات الروسية شروطاً تفضيلية لكسر العزلة الاقتصادية المفروضة على البلدان هذه وعلى الشركات الروسية معاً. ويعود التحول المفاجئ في السياسة الخارجية الروسية إلى شح الاستثمارات الضرورية لتحديث الاقتصاد، وتطوير البنية التحتية ووسائل النقل. وغلب التفاؤل الروسي في أثناء مرحلة ارتفاع أسعار النفط في الماضي. وفي مرحلة ما بعد الأزمة المالية، برزت حاجة روسيا الى أصدقاء تربطها بهم علاقات اقتصادية. وبحسب وزارة التنمية الاقتصادية، تبلغ كلفة مشاريع اعمال البنية التحتية والبرامج الاجتماعية، المفترض انجازها في 2013، نحو تريليون دولار. وأبرزت الازمة عجز روسيا عن التحديث والقيام بأعبائه منفردة، فأدركت الإدارة البوتينية الحاجة الى التعاون مع الآخرين، وخصوصاً مع الاتحاد الأوروبي. وأعلن ديبلوماسي أوروبي رفيع المستوى أنّ كلام المسؤولين الروس دار، في الاشهر الاخيرة وفي جميع اللقاءات، على دور أوروبا في تحديث روسيا. فهم يرغبون في استقطاب اجانب ينوون الاستثمار، وتنفيذ خطط مشتركة، محلية ودولية، مع قطاع الأعمال الروسي. وعلى رغم أن العمل بالوثيقة لم يسرِ بَعد، فإبرام اتفاق «ستارت 3» هو من أركانها. وفي 2010، صاغت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي. ومن المفترض أن يوقعها الرئيس الروسي ورئيس الاتحاد الاوروبي، فان رومبوي هيرمان، في قمة روستوف. ومن المفترض أن تباشر المفاوضات على نظام التأشيرة الحرة بين روسيا والاتحاد الأوروبي. وثمة اتفاق شراكة وتعاون مع أوروبا يُبرم، إثر استكمال روسيا المفاوضات، على الانضمام الى منظمة التجارة العالمية. ويتصدر تعزيز التعاون مع دول الشمال الأوروبي الاولويات الروسية. فالدول هذه قطعت شوطاً كبيراً في تطوير وسائل انتاج الطاقة ووسائل حفظها، والنانو تكنولوجيا، وقطاع الاتصالات، وبناء السفن في منطقة القطب الشمالي. واقترح الرئيس ميدفيديف التعاون في المجالات هذه، في زيارته الأخيرة الدانمارك والنروج. ودعا رجال الأعمال في كوبنهاغن الى المشاركة في مشروع «سكولكوفو». وفي أوسلو، قدّم ميدفيديف تنازلات غير مسبوقة، ووقّع اتفاق ترسيم حدود روسيا في بحر بارنتس مع النروج. ومن أولويات الوثيقة الروسية التعاون مع دول الاتحاد الأوروبي التي تؤيد روسيا، وهي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وتعزيز التعاون الثلاثي بين روسيا والاتحاد الاوروبي وأميركا، والاسهام في تسوية النزاع بالشرق الاوسط والبرنامج النووي الايراني، ومكافحة الإرهاب، وتغير المناخ. وتسعى موسكو من طريق توسل الثقل الفرنسي - الالماني بالاتحاد الأوروبي الى تسوية عدد من المشكلات، وصوغ الانظمة والقوانين الروسية بالاستناد الى عناصر من تشريعات الاتحاد الأوروبي. وترغب موسكو في استقطاب الخبراء وأصحاب المهارات العالية من طريق التبادل المهني والأكاديمي مع الاتحاد الأوروبي. وتدعو الوثيقة الى الحرص على تنفيذ الاتفاقات المبرمة مع الاتحاد الأوروبي التي تعبّد الطريق أمام عمليات التكامل الإقليمي، وتوطيد العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ورابطة الدول المستقلة، وإبرام خطط تعاون ثلاثية مع رابطة الدول المستقلة والاتحاد الأوروبي. * صحافيان، عن موقع مجلة «نيوزويك» الروسيّ، 9/5/2010، إعداد علي شرف الدين