من المبكر القول إن الاتفاق الإيراني - التركي - البرازيلي سيشعل الضوء الأخضر لإعادة الملف النووي الإيراني مجدداً إلى السكة الديبلوماسية وحدها. فلا قطار العقوبات توقف وإن بدا أن ثمة احتمالاً لتخفيف سرعته موقتاً. ولا ساحات الاستعداد للنزال العسكري هدأ ضجيجها وإن بدا حتى الآن أن أحداً لا يريد الذهاب إلى الحرب. سيبقى الملف على حبل مشدود فوق نار هذه الخيارات الثلاثة. لكن لعبة شراء الوقت تقترب من آخر ساعاتها. ليس لأن الجمهورية الاسلامية باتت على أبواب النادي النووي، بل لأن الأوضاع في الشرق الأوسط، الصغير والكبير، لم تعد تحتمل الانتظار والجمود والاهتراء، من فلسطين إلى أفغانستان، مروراً بلبنان والعراق والخليج. ثمة مبالغة في أن الدول الكبرى فوجئت بالاتفاق الثلاثي لتبادل الوقود النووي. وأن هذا الاتفاق سيربك تالياً التحرك في مجلس الأمن لفرض جولة رابعة من العقوبات على الجمهورية الاسلامية. من الصعب أن تكون الولاياتالمتحدة بعيدة إلى هذا الحد عن تحرك تركيا الذي بدأ باكراً، إثر فشل محادثات فيينا في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بين إيران والدول الخمس الكبرى وألمانيا لمناقشة اقتراح تبادل الوقود النووي في الخارج. وقد أشاع وزير الخارجية التركي الذي كانت له اليد الطولى في اقناع طهران بهذا المخرج الدولي أجواء من التفاؤل قبل نحو شهرين. وواظبت الديبلوماسية التركية على وساطتها لإيمانها بأن العقبة الكبرى في وجه الحل هي فقدان الثقة. لو أن الإدارة الأميركية فوجئت بالاتفاق الثلاثي بالصيغة التي خرج بها، لكانت تمهلت قبل إعلان تمسكها بسيف العقوبات. وإن كانت تركت لبعض شركائها أن يطالبوا بتوضيحات، ولبعض آخر أن يدعو إلى إعطاء المسار الديبلوماسي مزيداً من الوقت لاختبار نيات إيران، ما دام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان نفسه اعتبر أن الاتفاق ليس كافياً. وعلى رغم أن هذه الإدارة أثنت على الدور الذي لعبته أنقرة، إلا أنها أكدت عدم التخلي عن المسارين، أو الخيارين الآخرين لمعالجة الملف النووي الإيراني. لأنها تنتظر من طهران سلفاً أجوبة ومواقف في ملفات أخرى، خصوصاً ملفي العراق ولبنان وفلسطين، ولأن هذين المسارين أثبتا جدوى. ولا شيء يوحي أيضاً بأن طهران لم تكن تتوقع ما صدر من ردود فعل على الاتفاق. لذلك ألحقته بالتأكيد أنها ستواصل نهج تخصيب اليورانيوم. وهددت بالتراجع إذا أُقرت العقوبات. أي أنها لم تحسم موقفها النهائي ولا ترغب في ذلك قبل التفاهم مرة واحدة في الملفات الأخرى. تريد المساومة والمقايضة إذا كان إبرام صفقة شاملة مع واشنطن في كل الملفات المفتوحة متعذراً في الوقت الحالي. وكانت عبرت في مراحل سابقة عبر أطراف عراقية ووسطاء عن استعدادها للتفاهم مع الولاياتالمتحدة. وشرطها ضمانات فعلية بأن توقف الدولة العظمى حصارها الجمهورية الاسلامية، ووقف التدخل في شؤونها الداخلية، والاعتراف بنظامها ومصالحها الحيوية ودورها الراجح سياسياً واقتصادياً وأمنياً كقوة كبرى في الاقليم. قد تفاخر إيران بأنها رمت الكرة في ملعب الآخرين، وأنها بارعة في لعبة حافة الهاوية وكسب الوقت، وأنها صمدت في وجه العقوبات السابقة ولا شيء يمنع صمودها في أي عقوبات مقبلة، ما دام ثمة شبه إجماع على أن العقوبات أثبتت فشلها في تجارب سابقة معها ومع غيرها، وبينها العراق جارها الأقرب. وما دامت الحرب تبدو خياراً مكلفاً وصعباً لدولة تحاول جاهدة الخروج من المستنقعين الأفغاني والعراقي... لكن الواقع يشي بخلاف ذلك. فلولا الخوف من نتائج العقوبات المقبلة لما كانت طهران سارعت إلى قبول مبادرة قديمة جددها التحرك التركي - البرازيلي. فضلاً عن ان قواعد اللعبة تغيرت. لقد أفادت إدارة الرئيس نجاد سابقاً من السياسة الخرقاء لإدارة جورج بوش. وانطلقت في تحدي الولاياتالمتحدة بعدما اطمأنت إلى إزالة نظامي «طالبان» وصدام حسين اللذين شغلاها طويلاً في حديقتيها الأمامية والخلفية. ولكن في الجولة الحالية من المواجهة فشلت هذه الادارة حيث نجحت إدارة أوباما. استدرج أوباما بثبات وصبر إيران إلى «سياسة انخراط» لم تتجاوب معها. رفضت يده الممدودة ورسائله إلى الشعب الإيراني، وردّتها إلى «الضعف» المتنامي للولايات المتحدة في المنطقة. بالغت في تقدير المتاعب والصعوبات التي خلفتها إدارة جورج بوش في المنطقة. ولم تدرك أن سياسة «الإجماع الدولي» التي تنتهجها واشنطن للحفاظ على مصالحها حلّت مكان التفرد وعقيدة «الحروب الاستباقية». وأن هذه السياسة أعادت فتح الباب أمام الشركاء الدوليين الكبار إلى المساهمة في معالجة الكثير من الأزمات والآثار المدمرة التي خلّفها جموح المحافظين في الإدارة السابقة. ولم تستمع طهران الى الرسائل - المقاربات الاقليمية الجديدة التي أطلقها أوباما من تركيا ثم من القاهرة... فإلى الجهود المبذولة لتحريك التسوية في الشرق الأوسط. رفضت طهران مبادرة تبادل الوقود التي اقترحتها الدول الخمس الكبرى وألمانيا. وشنت على الأثر حملة ديبلوماسية واسعة. واستضافت «المؤتمر الدولي لنزع السلاح النووي»، بالتوازي مع استضافة واشنطن قمة دولية لتجديد التزام معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. وعوّلت على موقفي روسيا والصين. لكنها فشلت، اذ فقدت هذين الصديقين الدوليين. نفد صبر المتعاطفين معها، فهي لم تبد اهتماماً بمبادراتهم ومحاولاتهم. مارست الكثير من الغموض والمواقف المتناقضة. سوّفت وماطلت مع موسكو وبكين وغيرهما. أخطأت في تقدير أرجحية علاقاتهما ومصالحهما مع الولاياتالمتحدة وأوروبا. لم تعتبر من الجولات الثلاث الأولى من العقوبات. لذلك لم يبق أمامها سوى التجاوب مع التحرك التركي – البرازيلي، في محاولة لكسب مزيد من الوقت. وفي أحسن الأحوال الرهان على فتح كوة في جدار التوافق الدولي على حصارها، أو إحداث اختراق في هذا التوافق... وتالياً إبعاد كأس الحزمة الجديدة من العقوبات. ذلك رأت الدول الست الكبرى أن الاتفاق على تبادل الوقود يظل خطوة ناقصة ما لم توقف إيران التخصيب. ويخشى أن تكون حكومة نجاد فقدت قدرتها على المناورة بعدما باتت أسيرة موقف ثابت بنت كل سياساتها الداخلية والخارجية عليه، ورهنت مستقبلها السياسي بهذا الموقف. لقد حولت مشروعها النووي القضية القومية الأولى، الأمر الذي وفّر لها إجماعاً وطنياً لا يجرؤ طرف داخلي على نقده أو التشكيك في النهج المتبع لإدارته. بل كانت المواجهة مع الخارج حول هذا المشروع غطاء لممارسة أدوات النظام وأجهزته ما مارسته من عنف وبطش مع أطراف المعارضة. في حين أن إدارة أوباما عرفت كيف تبدل قواعد اللعبة. طوت السياسة الأميركية القديمة. اعتمدت سياسة اليد الممدودة إلى إيران. ونجحت في تحويل سياسة حماية أهدافها ومصالحها الحيوية في الشرق الأوسط والخليج جزءاً من الاستقرار والسلم في المنطقة والعالم. ودفعت بشركائها الاقليميين والدوليين إلى الانخراط في مشروع حماية الاستقرار والسلم هذين. ومن هنا جاء الإجماع على المشروع الحالي للعقوبات الجديدة الذي يهدد الجمهورية الاسلامية بعزلة خانقة. كل ذلك من دون أن تتخلى واشنطن عن الخيار العسكري. وترجمت امكان اللجوء إلى هذا الخيار بنشر شبكة صواريخ في منطقة الخليج، وإقرارها تمويل مشروع «القبة الحديدية» لحماية إسرائيل من صواريخ «حزب الله» و «حماس» القصيرة المدى. وبإثاراتها المتكررة «عاصفة» حول إمداد سورية المقاومة في لبنان بأسلحة تهدد ميزان القوى... ناهيك عن التهديدات الاسرائيلية لدمشق وبيروت وطهران. مثل هذه التحضيرات للحرب تشكل عاملاً ضاغطاً من عوامل دفع إيران إلى التفكير ملياً، والتوقف عن تجاهل الموقف الدولي من برنامجها النووي. وأياً كان المسار الذي سيتخذه الاتفاق الثلاثي في الأيام المقبلة بعد نقله اليوم إلى عهدة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لن تتوقف إدارة أوباما عن التلويح بسيف العقوبات، وعن قرع طبول الحرب... حتى وإن منحت الاتفاق فرصة ديبلوماسية جديدة. إنها «سياسة القوة الناعمة والقوة الصلبة معاً».