هل هناك قائد أوحد وبلا منازع للساحة الثقافية، هل يوجد الشاعر الأكبر، أو الصحافي الروائي الأبرز، ولمَ كل هذه المقولات أو التصنيفات؟ التي نطالعها بين وقت وآخر، تقال عن شخص بعينه، وكأن المشهد الثقافي فعلاً لا يستوعب التنوع والتعدد. «الحياة» استطلعت آراء بعض المثقفين حول هذه المقولات وما تنم عنه من أفق ضيق. الناقد سعد البازعي يعتبر أن القول بأن ثمة شخصاً ما يقود مشهداً ثقافياً «يعني إما أن ذلك الشخص من فئة متجاوزة للبشر، أي نوع من السوبرمان، وإما أن المشهد من الهشاشة بحيث يحتمل قيادة فردية». وشدد: «ومع أني لست معجباً بالمشهد الثقافي المحلي، بل العربي إجمالاً، فإني لا أراه من الهشاشة بحيث يحتاج إلى قائد أصلاً». وأعرب عن دهشته لأن: «المشهد الثقافي في بلد مثل المملكة من الغنى والتنوع، بحيث يستحيل على شخص واحد أن يكون الأكثر بروزاً وتأثيراً فيه، ناهيك عن أن يقوده!». وتساءل: «فهل سيبرز ذلك الشخص أو يؤثر في الدراسات التاريخية، أم الأنثروبولوجية أم التشكيلية أم الموسيقية أم الأدبية، أم... أم...؟»، معتبراً أن «المشهد الثقافي ليس مشهداً أدبياً أو نقدياً، كما أنه ليس مشهداً تصنعه المعلومة الجغرافية أو التربوية أو الرؤية الإعلامية أو غير ذلك». ومضى في القول: «وحتى لو سلمنا بأن البعض يقصد الأدب والنقد حين يتحدث عن القيادة والتأثير، فكيف يستطيع شخص واحد أن يؤثر في كل التيارات النقدية والأنواع الأدبية؟». وتابع البازعي تساؤلاته: «هل صدرت الروايات أم كتب الشعر تأثراًً بما يراه فلان من الناس، أم ألفت كل الكتب وقدمت كل الاجتهادات لأن فلاناً قال كذا؟». وقال:» إنه كلام مجاني ولا يليق أن يقال في ساحة بهذا التنوع»، معتبراً: «التطرف في الرأي جزءاً من التطرف في مناحٍ أخرى من حياتنا». واستدرك: «لكني لا أرى أن التطرف هو سيد الساحة بحمد الله، فالمتطرفون ومحبو الإثارة والاستفزاز عبء على الحياة الاجتماعية والثقافية في أماكن كثيرة من العالم، وعلينا أن نحتمل وجودهم لأن الحياة لا تخلو من منغصات، لكن هذا لا يعني السكوت عنهم وإعطاءهم المساحة لكي يصولوا ويجولوا بما في آرائهم من تطرف أو سخف، قد يؤدي في الناحية إلى إضعاف المشهد الثقافي بأكمله بما فيه من تنوع». وعبر عن ألمه في « شكل خاص لدخول بعض من أحترمهم وأحترم آراءهم وترديدهم كلاماً هشاً من أساسه»، وتابع: «كما يؤلمني أيضاً أن تتحول ساحة الإعلام الثقافي إلى مرتع لمثل تلك الآراء»، مؤكداً: «تبين لي بعد سنين من معايشة الحياة الثقافية في المملكة أن الناس في النهاية لا تحفل بالعمق أو بالجدية والهدوء، بقدر ما تعنى بالهشاشة والضجيج. فالذي يملأ المكان صراخاً هو الذي يسمع بغض النظر عن الخواء والسخف الذي يحمله ذلك الصراخ». فيما أرجع الناقد محمد الحرز، التصنيف وترديد مقولات من مثل: قائد الساحة الثقافية بلا منازع، والشاعر والصحافي الأوحد، إلى «الجهل، والاستسهال، وبقاء الذهنية التقليدية، ما يدل على خلل في مفهوم المثقف والكتابة»، واصفة تلك العبارات بأنها «جملة من المفاهيم المغلوطة، ومن يصدرها بعيد عن الساحة، أو ينظر إلى الساحة نظرة عاطفية». وشدد: «في الثقافة ليس ثمة أصنام تعبد، والثقافة تصنع الباحثين والكتاب، ومن يصنع الرموز الثقافية هم المستفيدون منها، والرموز تصنع في جهة السياسة، والدين، أما المتنور، فلا يرضى لنفسه أن يكون قائداً»، متابعاً «هذه مصطلحات سياسية»، ومضى في القول: «نعم ثمة مثقفون يمتلكون كاريزما، وحضوراً، لكن ذلك لا يصل إلى أن يغدو صاحبها حجة»، واصفاً ذلك ب«السذاجة». وأكد أن «تسيد بعض المثقفين، ليس له منطلق إبداعي، إنما يعود إلى عوامل مساعدة جعلت من اسمه، حاضراً في المنتديات، وفي الإعلام». وعزا السبب إلى «المؤسسات التي ينتمي إليها، وهل يحمل مؤهلاً أكاديمياً أم لا، وهل يمتلك موقعاً في السلطة وقنوات تواصل معها، وهل له حضور ثقافي على الصحف». وخلص إلى أن تلك العوامل تساعد في صناعة النجومية والبروز، مشدداً أن «الأهم من ذلك هو فاعلية المثقف، ومدى فاعلية أفكاره في المتلقين كي يصدق عليه بالفعل وصف مثقف حقيقي، وتنويري». هل يمكن لذات واحدة أن تتسيد في الساحة؟ ويقول الناقد محمد العباس: «غالباً ما نفاجأ بمثل هذه المقولات من خلال المانشتات الصحافية، التي تشبه هباءات قائمة ال100 شخصية الأكثر تأثيراً في الحياة العربية، والتي تضم أسماء محلية وعربية لا تحمل أي منجز ولا سمعة إبداعية أو إنسانية. وهذه المقولات لا تحيل بالتأكيد إلى حقيقة ثقافية، وينبغي عدم التعاطي معها من هذا المنطلق، فأي مشهد ثقافي مهما اتسع أو ضاق لا يمكن لذات ثقافية أن تتسيّده وتتحكم في مجرياته وقضاياه. أما من يطلق مثل هذه العبارات أو من يفرح بإسباغ لقب الريادة والتفرد عليه، فهو يمارس الصراخ في مدار لا ثقافي، وكأنه يريد إعادة إنتاج أمراض الذات العربية القائمة في جانب منها على المفاضلة والتفاخر وتكريس اللقطات المقرّبة (الكلوس أب) التي طالما افتتن بها الإنسان العربي وردّدها من دون أدنى مراجعة. ولا شك أن هنالك ذوات ثقافية تمتلك من الإسهامات ما يؤهلها للتموضع في صدارة المشهد، والأولى لمن يحمل ولو منسوب ضئيل من الإعجاب بتلك الذات أن يطرح منجزها ضمن مجادلة فكرية وجمالية، أي تفكيك حالها ومآلها». ويرى العباس أنه لم يحدث تاريخياً أن أسلم مشهد ثقافي قياده لشخص واحد، مهما بلغ من العبقرية أو التضخم، «لأن الحال الثقافية لا تتحرك دائماً في شكل رأسي، بل من خلال موجات أفقية متجاورة ومتتابعة، تمثل حالات جيلية وظواهر وحركات جمالية، وليس من خلال رأس واحد أشبه ما يكون بالحفّار، وما الألقاب التي نطالعها حول شخصية ترتضي أن تلبس حلة (المفكر) إلا دلالة على المجانية، فالمفكر هو كائن معرفي جمالي يبتكر النظرية ويولّد المعرفة الحسّية، وهو امتياز لا يتوافر في مشهدنا، فشروط ظهور المثقف من الوجهة التاريخية والاجتماعية في مشهدنا لا تسمح له إلا بأن يكون حالة استهلاكية، وإذا برز مثقف ما في طريقة طرحه للمنتجات الثقافية المعولمة، فإنه إنما يؤكد أسبقيته في استجلاب النظرية وليس إنتاجها، وبالتالي لا يمكن أن نطلق عليه لقب القائد لأن من يقود الفعل الثقافي يكون منجزه وجهاز مفاهيمه بمثابة مضخة لتوليد الأسئلة، وهو ما يعني أن يقوم هو بمفرده بفعل الترجمة، ومقاربة المنتج السردي والشعري، وملاحظة خطاب الفنون البصرية والمسرح، ومجادلة خطاب المؤسسة تقويضاً أو تصحيحاً، إضافة إلى تحليل الظواهر المتعددة والتي تبدأ من الطليعي ولا تنتهي عند الشعبي بل تمتد إلى السوقي من المنتجات الثقافية، وهذه اشتغالات واسعة لم ولن يتقاطع معها الشخص الذي يدعّي إلمامه بها، ومن يحاول إيهام المشهد بقدرة شخص واحد على إتيان كل ضروب واشتغالات المشهد يكون قد تجرأ على مغالطة تنتقص من ذاته هو ولا تزيد من رصيد من أريد رفعه أو تحميله عبء وشرف قيادة المشهد». ويعتقد أن لمثل هذه المقولات «اللا مسؤولة مخاطرها في الانحدار بالفعل الثقافي إلى مستوى على درجة من التدني، ولعل أحد أهم تبعاتها تكمن في انجراف المشهد للتجادل في الهامش وترك القضايا الحيوية».