مع أن العامة وجمعاً من المبتدئين الفقهاء يستسهلون «الفتوى» على اعتبارها أمراً عادياً، فيطلبها الأولون في كل شيء، فيما يجيب الآخرون أحياناً عن كل شيء، إلا أن «الفتوى» في الثقافة الإسلامية، ظلت عند العلماء الراسخين ينظر لها بعين «إجلال ورهبة وإكبار»، فهي مثل سلاح الطيران بالنسبة للجيوش النظامية، تحلق في اللحظات الحرجة فقط، ولكنها حين تنزل «تزهق الباطل، وتهتك التحصينات المنيعة». وإذا كان الأمير خالد بن سلطان في مذكراته «مقاتل من الصحراء»، تحدث عن أهمية «القوة الجوية» منذ أن جرعه وصحبه العرب تفوق إسرائيل في هذا الميدان عام 67 كأس «الذل والمهانة» وهو لم يزل طالباً في أكاديمية ساندهيرست العسكرية، فإن «فتاوى» وأقوال بنكهتها هنا وهناك لم تزل تجرّع الكثير من الغيورين على الدين وأوطانهم، مرارة «الذل والمهانة» كما عبر الأمير نفسه. ومع أن الأمير في المقطع التالي، تحدث باعتزاز عما بهره من «الأداء الرائع لقوات الدفاع الجوي المصرية في حرب 73 ودورها في الحد من قدرة الذراع الطويلة لإسرائيل»، ما جعله ينادي بأن يكون الدفاع الجوي في المملكة «قوة مستقلة»، إلا أن هزيمة الرأي العام الإسلامي أمام المدّ الهائل من الشوائب والشبهات والأغاليط، لم تغسل بعد بمعركة «فتاوى قاصمة»، كما شفت معركة العبور صدور العرب والمسلمين جميعاً. لكن ذلك لا يعني الاستسلام، كما يعتقد الفقهاء المخلصون، ففي المملكة على سبيل المثال، ظل الصوت المعتدل يحاول أن يكسب المعركة بطلائع سحقت في مناسبات عدة، ما كان من قبلها رائجاً، وبينت الحكم الشرعي بدليله، فكانت لمؤسسة الإفتاء بذلك «السيادة الأرضية» والمصداقية الأعلى، حتى وإن بقيت «السيادة الجوية» عبر الفضائيات لفتاوى أقل رصانة وفقهاً. ولذلك كانت مطالبة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي عام 2009 للفقهاء وسائل الإعلام صريحة، بأن يكف الأولون عن نشر آرائهم الفقهية الشاذة المثيرة للفرقة والفتنة، وينأى الآخرون عن الترويج عبر وسائلهم، لما اعتبره المجمع شذوذاً وتجهيلاً، وذلك في أول «ميثاق» للفتوى في العالم الإسلامي. وتعد فتوى هيئة كبار العلماء الأخيرة في «تجريم تمويل الإرهاب»، واحدة من الخطوات، التي أعادت الأمل لكثيرين بأن تستعيد مؤسسة الإفتاء الشرعية الوحيدة في البلاد، سيادتها على «الفتوى» في الميدان، خصوصاً بعد أن غدت «الفتوى» قضية تفرق دمها بين قبائل «النت» وعشائر «التكفير والتفسيق». وإذا كان الأمير خالد في مذكراته اعتبر «حرب الخليج» أظهرت بجلاء أن المملكة «حجر الزاوية» في الدفاع عن منطقة الخليج، فإن هيئة كبار العلماء بما احتوته من عقول وأفكار، وما تملكه من إمكانات فريدة، يتطلع الكثيرون إلى أن تكون هي الأخرى حجر الزاوية، في تحرير «الفتوى» من الاستغلال واستعادة هيبتها المسلوبة، وضبط سوقها التي تشهد توسعاً، ما دفع جهة إسلامية أهلية أخيراً إلى رصد، نحو 5 آلاف فتوى خلال ثلاثة أشهر، تدفقت فقط عبر الفضاء، بينما يشهد الانترنت والمجلات، أضعاف ذلك العدد مرات عدة.