على رغم كميات الدم القياسية (في فيلم «هيجان» للياباني تاكيشي كيتانو) وكميات الدموع المدهشة (في «المال لا ينام» ونصف دزينة من أفلام أخرى عرضت في دورة «كان» حتى اليوم) وكميات السوائل الأخرى المرعبة وأمراضها (على الأقل في فيلم ايناريتو الجديد «بيوتيفول»)، عرف ضيوف العروض «الكانيّة» يوم أمس لحظة سعادة شاعرية، ربما انستهم، ولو لفترة يسيرة، بؤس العالم وعنفه وضراوة الوجود التي عبّر عنها حتى الآن معظم ما عرض من أفلام داخل المسابقة وخارجها. هذه اللحظة السعيدة سينمائيا على الأقل أمّنها المخرج الأيراني عباس كياروستامي في فيلمه الجديد المتباري في التظاهرة الأساس «نسخة طبق الأصل». ومن هنا حين صفّق المتفرجون كثيراً عند نهاية عرض الفيلم كان من الواضح ان تصفيقهم حمل معان كثيرة: صفقوا للمخرج الأيراني الكبير اذ حقق اول فيلم له خارج حدود بلاده وربما أيضا خارج موضوعاته المعتادة (وهذا أمر قابل للنقاش طبعا). صفقوا للسعادة التي اعطاهم الفيلم اياها خلال ساعتيه تقريبا. صفقوا للفنانة جولييت بينوش وقد لعبت هنا دوراً حيوياً مدهشاً جديراً بكل انواع الجوائز في «كان» وغيرها. لكنهم صفقوا اكثر للفيلم نفسه. ففيلم «نسخة طبق الأصل» رغم موضوعه القديم قدم البشرية نفسها (الحب بين رجل وامرأة وانفراطه امام فخ الحياة الزوجية... مبدئيا !) فيلم ما كان يمكن ان يحققه سوى سينمائي كبير بل استثنائي من طينة كياروستامي. فالحال ان بصمات كياروستامي واضحة في الفيلم من اوله الى آخره. فالرحلة المعهودة هناك. والحوار بين الطفل وامه هناك (يكاد يكون نسخة من الحوار الرائع بين الفتى وأمه في فيلم سابق للمخرج هو «عشرة»). ورحلة البحث عن شيء ما موجودة. والحوارات الطويلة واللقطات الثابتة تملأ الفيلم كما العادة لدى صاحب «مذاق الكرز» و «عبر اشجار الزيتون». والمرأة، خاصة المرأة، موجودة هنا في تقلباتها واحباطاتها وشكواها وفرحها الصغير واحزانها. انها هنا تكاد تكون صورة من نساء فيلم «عشرة» مجتمعات... كل هذا وغيره ماثل هنا في هذا الفيلم مثول كاميرا كياروستامي التي تتأرجح في كل لحظة بين حدّين: اللقطات البانورامية واللقطات الثابتة بما في ذلك لحظات الصمت الطويلة التي تقول اكثر من الكلام. كل هذا كياروستامي هنا بامتياز وستكون عودات اليه. اما المدهش فهو الموضوع والأسئلة الكثيرة التي تداعب خيال المتفرج، اذ ينتهي العرض ويكتشف انه لم يعرف حقيقة ما حدث. انه هنا كمن يقرأ القصيدة الصينية القديمة حول الفتاة التي حلمت انها فراشة وحين افاقت لم تعد تدري أهي فتاة حلمت انها فراشة ام فراشة تحلم انها فتاة. والأحالة الى القصيدة ملائمة هنا لأن ما قدمه كياروستامي في هذه السينما الخالصة، في هذه الشاعرية الخالصة، ليس اكثر من لقاء بسيط بين كاتب انكليزي وصاحبة «غاليري» فرنسية في قرية ايطالية جميلة تعيش هي فيها ويزورها هو ليلقي محاضرة حول كتاب له عن اهمية التزوير في تاريخ الفن. يلتقيان بناء لطلبها ويقومان معا برحلة تستغرق ساعات هي زمن «احداث» الفيلم. وخلال الرحلة لا يعودان يعرفان ولا نعود نحن نعرف ما اذا كانا غريبين التقيا ام زوجين يحاسبان ماضيهما. او بالاحرى تحاسب المرأة «زوجها» على اهماله اياها. انه دائما غائب. بالكاد ينظر اليها. بالكاد يحسّ لها وجودا. وهي تفعل كل شيء كي يحس انوثتها لكنه لا يفعل. بالكاد يراها. فماذا يحدث بعد هذا؟ لا شيء: ينتهي الفيلم كما كل قصيدة جميلة ويخرج المتفرج كحال الفراشة - الفتاة، ولكن مغلفاً بعبق شاعري يؤكد له كياروستامي من خلاله ان السينما وجدت من اجله ايضا. وتؤكد له جولييت بينوش ان المرأة خلقت من اجله ايضا!