ينضاف الشاعر عصام العبدالله كإسم مجدد في سياق الشعر المحكي اللبناني، الى جانب أسماء برعت وحدّثت هذا النمط من الشعر، بحيث رفعته من المجال النسقي – المنغمس في دائرة الزجل والأهزوجة والأغنية الشعبية التي تتردد في حيز الفولكلور الغنائي الجبلي والريفي الى أفق الحداثة الشعرية التي تتماهى وتتناغم مع شعر الحداثة العربية المكتوب بالفصحى. من هنا ينضاف عصام العبدالله الى جملة من الأسماء البارزة في الشعر المحكي الجديد الذي كتبه الشاعر الرائد ميشال طراد والأخوان رحباني وطلال حيدر وجورج يمّين وغسان الشامي. سبب تداعي السطور الآنفة هو ديوان «مقام الصوت» العمل الجديد للشاعر عصام العبدالله، (دار «النهضة العربية» - بيروت). يفتتح العبدالله ديوانه بقصيدة عن الحرية، متخذاً منها عتبة جمالية في فهم ما يحمله الديوان من رؤية دلالية تفضي الى كشف خباياه والمستور المتواري في تضاعيفه ونسيجه الفني – المتسم بلغة فاتنة، شفافة ذات نسج رهيف، يتقن عصام العبدالله حياكته بإبرة ذهبية تجعل من النسج الذي يعمل عليه يتوهج كتحفة مفعمة بالضوء والبريق. إن قصائد «حرية» و «لعب» و «فضة» و «شو بحبها» و «درس قواعد» كلها تمتاز بالرشاقة والتقشف الصوتي والاختزال البائن للبنية اللغوية، تلك التي تختصر الأبعاد الرمزية في بعد واحد تتم الإشارة الدلالية إليه لئلا تضيع الصور في سياق تجريدي وتتراكم فوق بعضها بعضاً لتؤدي وظيفة فنية أخرى، كالوظيفة الذهنية على سبيل المثال، هذه الخصال هي ليست متوافرة في قصيدته،لأن قصيدة عصام العبدالله قصيدة حسية تحمل بهاء المعنى ووضوح المبتغى، ذلك الوضوح المكتنز بالرؤى، إنها تشبه السوينيتات القصيرة الميلودية – المائلة تجاه الإيقاع والثراء الموسيقي. أما إذا ابتعدنا من هذه الأجواء النغمية التي وسمت القصائد المذكورة، فإننا سنعثر على قصائد بُنيَت على أساس زمني كما لمسنا ذلك في قصيدتي «وقتنا» وقصيدة «مقام الصوت» التي اتخذ الديوان منها عنواناً له. ان هاتين القصيدتين، تعملان على الوحدة الزمنية ببعدها الفلسفي – المحمّل بالتساؤلات الوجودية، هذه التساؤلات التي تتساءل عن مسعى الكائن البشري وتمظهراته الحياتية في الوجود وهو ينحت معناه على سلّم الوقت، طفولته، صباه، فتوته، كهولته، حزنه وفرحه، توهجه وانكساره أمام سهم الوقت الذي يخترقه في مسعاه اليومي المتصاعد باتجاه المجهول والغياب والصمت النهائي في الظلمات. لكن عصام العبدالله الذي يعي مصاب هذا السهم يميل الى اضاءة الجانب الجميل من الزمن، جانب الطفولة والرغادة الطائرة بأجنحة بريئة. «كنّا عم نربّي الوقت مع بعضنا، الوقت اللي إسمو وقتنا/ وكان حلو كتيرْ/ أشقر مثل ذهب ووقع بالمي». في الشعر الحالم والفانتازي والملهم، العلاقات البنائية تتخلخل، وتأخذ الجانب المغاير، المقلوب، أو البديل – الانقلابي المشحوذ من الوحدة الزمنية بصيغة مختلفة وطبيعة ثانية: «الوقت اللي إسمو وقتنا وكنّا نحبو كتيرْ/ نلعب معو وندلعو ونرَضّعو». هنا الوقت حلّ في مرتبة الكائن، تزيّا بهيئة مخالفة للسائد، بحيث غدا هو المساق للإرادة الطفلية ومخيلته البارعة في ابتكار الصور القريبة من روحه، إنه اللعب الطفولي بالزمن والأشياء والطبيعة، انه اللهو المرح المملوء بالأجنحة الطائرة لطفلين يلعبان بالوقت: «الوقت اللي إسمو وقتنا/ طفل الغرف المعتّمِه/ إمو البردايه/ نعرى تيلبسْ زينتو/ وتجن المراية». هذه اللغة اللينة والمطواعة – المنسابة كالضوء، لا تستطيل أو تتشعّث، بل تنضغط الى حد استخلاص العصارة، بغية التقاط الإكسير الجمالي لبنية المقطع الشعري الهامس الشبيه بالتنويمة تحت أفق ناعس، ميّاد وميلودي. بينما في القصيدة الثانية وهي قصيدة «مقام الصوت» يتصادى النغم في حيز أوركسترالي، حيث يصبح للصوت مقام، وهو مقام رمزي، لشاعر رمز وكبير، هو ميشال طراد الذي رُفعت القصيدة اليه، الشاعر الغنائي الذي حوّل الشعر في المحكية اللبنانية الى قصيدة تنافس حتى القصيدة الفصيحة ذات البعد الغنائي في الشعر اللبناني. في قصيدة «مقام الصوت» تتسحرن اللغة المحكية لدى عصام العبدالله وتبرق الصورة الشعرية لتضيء البنيان المتماسك ذا الأساس القائم على مدماك المغناة، حيث القصيدة هنا تنتهل من نبع العناصر الكونية لتكون الريح القاعدة التي تتمأسس عليها القصيدة: «الريح القوية الفيّقتْ نوم الكواكب والنجوم/ اللي مهجّره/ اللي حامله عاضهرها/ فرش ولحف بيبينو مثل الغيوم». إذاً عنصر الريح كما يبدو في المقطع الآنف يتحول ويأخذ أشكالاً وهيئات ومساقات مختلفة، حيث الأشياء والكائنات والعناصر تتشيّأ وتتأنسن: «الريح اللطيفة الحامله صوتكْ/ مثل قنينة نبيد/ مستعجله وتيابها/ متل الكأنّا رايحه عالعيد/ وبيدها برق الشعر/ الألماز تاني إيدْ». مطلع هذه القصيدة كما هو واضح يحاكي إحدى قصائد طراد الشفيفة، ولكن عصام العبدالله يعرف كيف يحوك نسيجه ويعطيه لمسة مغايرة تمتح من منهل مختلف يُمكّنه من إسباغ صفة النمنمة على عمله والصوغ النادر المتصف بالنعومة الماسية، التي تجعله متفرّداً وله طرازه الخاص.