لا تكتفي روايات شريف مجدلاني المكتوبة بالفرنسيّة، والمنقولة إلى العربيّة في ترجمات جميلة ووفية، بمرافقة عائلةٍ إلى ذروة مجدها ثمّ إلى أسفل دركات تلاشيها، إنّما تنقل بموازاة قصص العائلة والأولاد والأحفاد، صورة عن المجتمع وقيمِهِ والظروف السياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة السائدة على أنماط عيشه، لتتحوّل روايات مجدلاني إلى نوعٍ من الحنين المؤرَّخ أو التأريخ لحقبة الإقطاعيّة اللبنانيّة، عندما وُجِد أسياد أفذاذ وأعيان متألّقون وعائلات وصالونات وسهرات ذهبيّة وقرارات صلبة. الرواية الثانية المعربة لمجدلاني «سيّد المرصد الأخير» صدرت حديثاً عن دار نوفل (2015) وقد ترجمتها ترجمة أنيقة الشاعرة دانيال صالح. وهي الرواية الثانية من أصل خمس روايات التي تُنقل إلى العربيّة حتّى الآن، من بعد رواية «البيت الكبير» التي نقلها عن الفرنسيّة بلغة جميلة وجَذِلة المترجم والكاتب اللبنانيّ جان هاشم. في روايات مجدلاني أكانت «البيت الكبير» أو «سيّد المرصد الأخير» أو حتّى أحدث رواياته «فيلاّ النساء» يجد القارئ نفسه أمام أسرة إقطاعيّة، عائلة حاكمة تشهد سقوطها من بعد أجيال من الثراء والنفوذ والرِفعة. فيرافق القارئ بطل مجدلاني والغصّة تحرق قلبه، فسنوات العزّ والشموخ لا تجد دائماً الوريث الملائم الذي سيحافظ عليها ويسهر على خلودها. من هنا، يفضح العنوان «سيّد المرصد الأخير» المسار الساقط للعائلة والانحطاط الذي ستقع فيه لا محالة. وقد اختار مجدلاني عنوانه بحنكة أنيقة فلكلّ كلمة من كلمات العنوان الثلاث صداها في الرواية وشبكة المعاني التي تنسجها. «السيّد» الآمر الناهي إنّ أجمل ما في روايات مجدلاني، إن أمكن التعميم، هو الوصف البلّوريّ الذي يجسّد الشخصيّات بأصوأتها ووجوهها وتحرّكاتها وأماراتها، وصف السيّد الرائع بشموخه وإبائه، ليصبح وجهاً حيّاً بين يدي قارئ يشعر به ومعه ويترك حياته اليوميّة لينغمس معه في رحلة إلى زمن بعيد، زمن الأسياد الأنيق البهيّ الفاخر. وأجمل ما في روايات مجدلاني، القدرة الرقيقة على تحميل الكلمات طبائع الناس وردود فعلهم وابتساماتهم وتجاعيد وجوههم، فالوصف صافٍ والسرد متماسك والشخصيّات حيّة تسير وتتكلّم وتأمر وتتجسّد بكلّ عظمتها وشموخها، فيقول الراوي مثلاً في وصف حميد «يد شكيب بك الخطّار اليُمنى»، وبأماكن مختلفة من السرد، «نبرة ذلك الصوت، تلك النظرة الوديعة الرصينة، لكن الحازمة بل القاسية والساخرة في بعض الأحيان، تلك البدلة الفضفاضة بعض الشيء عليه، غير أنّها في الواقع تليق به، وقد افترض شكيب أنّه استعارها من أحد أصدقائه [...] كان متحفّظاً متشامخاً. لكنّ ثمّة أشخاصاً لديهم تأثير غريب على الآخرين، وحميد كان واحداً منهم. نظرته كان فيها أبّهة، طريقته في الاستهزاء بعلل غيره كانت على الدوام لبقة لافتة، تكاد تكون أرستقراطيّة. كان نحيلاً، غير أنّ كيانه يبعث طاقةً هائلة، ذكاءً يكسفنا جميعاً». (ص 10- 16) والسيّد هو البطل، الشخصيّة المفتاح، الآمر الناهي الشامخ، السيّد الأزليّ الأبديّ الذي لا حدود لسلطته والذي لا يُعارَض أو يُجابَه أو يُسأل. لكنّ السيّد لا ينفكّ يبحث لنفسه عن وريث من بين أبنائه، إنّما الزمن غدّار، فعظمة شكيب بك، أبّهة آل خطّار لا تجد صداها في أيٍّ من الورثة، فالابن البكر غارق في السيارات والعلاقات الغراميّة والكتب، والابن الأصغر قطع كلّ صلة تربطه بعراقة عائلته وأبّهتها وفضّل مؤازرة أهل السار والشيوعيّة واصطفّ في صفّ الفلسطينيّين في الحرب الأهليّة اللبنانيّة. أمّا الفتيات فعلى رغم اختيار أزواج عريقين لهنّ لم يتمكّن أيّ صهر من أن يكون على قدر المسؤوليّة والحمل. فبقي السيّد وحيداً، صامداً بمفرده، مقاوماً الزمن دفاعاً عن أراضيه وأملاكه ونفوذه، محافظاً على شموخ أجداده ورِفعتهم، لا ينكسر ولا ينحني ولا يتزحزح: «كان على يقين بأنّ كلّ ما لديه، المصنع، أراضي المرصد، المباني والمحلاّت، كلّ ذلك سيُهدر عند وفاته» (ص 162). قصّة بلد راوي مجدلاني يتكهّن بمجريات الأحداث، فهو شخصيّة من الشخصيّات يرافقها ويسمع ما تسمع وينقل ما تفشي له من أسرار، ولا يُطلع القارئ على أكثر ممّا يعلم، وهذا بالضبط ما منح السرد وهجه وقوّته. كما أنّ الراوي تكلّم عن لبنان وبالتحديد عن المثلّث: المصيطبة والمرصد ورأس النبع، فراقب ووصف الزحف السنّي إلى المناطق المسيحيّة الأرثوذكسيّة أواسط القرن العشرين، ابتداء من العام 1941 تاريخ انتهاء الحرب العالميّة وبلوغ آل خطّار ذروة مجدهم، حتّى انتهاء الحرب الأهليّة العام 1989 ونهاية عصر إقطاع أسياد آل خطّار بوفاة السيّد الأخير شكيب بك. نقل الراوي المتكلّم بصيغة المفرد «أنا» الحرب اللبنانيّة، معارك الزعران في الشوارع، ضغوطات الميليشيات التي أخرجت المسيحيّين من مناطق الغربيّة وأخرجت المسلمين من مناطق الشرقيّة. ووصفُ الراوي وصفٌ يتألّم لمغادرة الأرثوذكس من المرصد، يتألّم لمغادرة مسيحيّي كفر عيسى من البقاع حيث السيطرة للمسلمين الشيعة، يتألّم لبقاء السيّد وحده من دون أتباع ولا أبّهة السنين الغابرة: «رفض وقاوم بعدما أصبح وحيداً، محاطاً بعائلات بعض الأنصار، مثل إمبراطور بيزنطة الأخير، بلا سلطة، بلا جيش، بلا شيء، في وجه الاستفزازات التي راحت تتصاعد وتتزايد». (ص 174). أسّس شكيب خطّار الأوّل أساسات عائلة آل خطّار الإقطاعيّة، وجاء من بعده ابنه مخايل ليكرّس هذه السلطة وينتقل بها في الحرب العالميّة الثانية إلى مستوى أعلى وأرفع وأكثر أرستقراطيّة، إلى أن بلغت العائلة أنبل درجات النفوذ والهيبة والأبّهة والثراء مع شكيب خطّار الثاني والأخير. لقد سما شكيب بك بآل خطّار إلى المجتمع الذهبيّ وأصبح هو المرجع السياسيّ والدينيّ والمادّيّ ومحرّك شؤون البلاد من بيته في المرصد. لكنّ شكيب بك راح يفقد صدقيّته السياسيّة ونفوذه الأوّل لسببين. أوّلهما غياب وريث حازم حاسم يتسلّم من بعده شؤون العائلة، وثانياً احتدام معارك الحرب اللبنانيّة، وتسلّمُ الميليشيات والأحزاب الشعبيّة والشوارعيّة دفّة الحكم. فإن احترم رئيس حزب الشعب العربيّ أشرف اللبّان سلطة شكيب بك، لم يُقِم له باقي رؤساء الأحزاب الجديدة أيّ اعتبار. نعم، لم ينحنِ شكيب بك لكنّ الميليشيات التي انتشرت في الشوارع لم تُقِم لتاريخه وزناً ولم تحافظ على الفروق الطبقيّة التي تربّى عليها وحرص عليها حرصه على حياته، فراحت تتضاعف خساراته، وبخاصّة مع تقلّص الوجود الأرثوذكسيّ في المرصد وتناقص عدد أتباعه. رواية «سيّد المرصد الأخير» رواية ترسم وجه السيّد الصارم الحازم القاسي ولكن أيضاً الرزين والحكيم والمهيب، تروي زمناً ذهبيّاً، قد لا يؤيّد القارئ ميزاته ولكنّه لا يمكن أن يمتنع عن التأسّف عليه والشعور بالحزن لسقوطه.