لكل دين عبقريته الخاصة في البحث عن معنى أو قيمة كلية تحقق وجوده في التاريخ. قد تنبع هذه العبقرية من التحديات التي يواجهها، أو الغايات التي يستهدفها، أو الدور التاريخي المنوط به. وقد تبدى الإسلام ديناً شاملاً ذا نزعة توفيقية بين المادية والروحانية، متفائلاً في فهمه للطبيعة البشرية، مؤكداً قدرة الإنسان على النضال ضد الشر، داعياً إلى تغيير العالم باتجاه الخلاص من الوثنية والظلم، معتبراً ذلك التغيير هو الوظيفة الأساسية للحضور الإنساني على الأرض، ولذا كانت للسياسة أهميتها المبدئية في الإسلام، وكانت السلطة، كآلية لتنظيم المجتمع وإدارته، محورية فيه. غير أن شكل هذه السلطة/ الدولة، وكيفية عملها هي أمور لم تكن محددة بوضوح في نصه المركزي (القرآن الكريم)، ولم يتوافر حولها الإجماع في التجربة التاريخية المؤسسة/ الراشدة، ما جعل الشأن السياسي في الإسلام هو أكثر المجالات إشكالية في ما يتعلق بقضية التجديد والتقليد، إذ يرى التيار السلفي في التراث ملامح (دولة دينية) يعتقد في إمكانية استعادتها كترجمة لما يدعوه ب (الحاكمية الإلهية)، على حساب الدولة العصرية (المدنية) التي تجسد، في اعتقاده، حاكمية الإنسان - غير الشرعية - على الأرض، وهو أمر عليه تحفظان: الأول: أن قضية الدولة أو «الإمامة الكبرى» هي الأكثر استبعاداً من إطار العقائد، التي يبقى معيار الخلاف فيها هو «الإيمان» و «الكفر»، إلى إطار «الفروع» التي يبقى معيار الاختلاف حولها «الصواب» و «الخطأ». وهو ما تتفق عليه جل المذاهب الكلامية، ولم يخالفه سوى الشيعة الذين قالوا بالوجوب الإلهي للإمامة مع ما يترتب على ذلك من العصمة والكمال. والثاني: أن حاكمية الإنسان على الأرض هي حاكمية مفوضة للإنسان، باعتباره الطرف الثاني في عهد الاستخلاف، الذي يمثل الله طرفه الأول. هذه الحاكمية تسمح له بتأسيس سلطته الزمنية على اجتماعه البشري، كمجال لفاعليته وحضوره الواعي في التاريخ، وهي تبقى غير منكرة طالما ظلت خاضعة لسنن الله في الكون. ومن ثم يمكن الادعاء بأن شمولية الإسلام تعني مرجعية المنظومة القيمية الإلهية لوجودنا البشري كله، ولكنها لا تفرض شكلاً معيناً للسلطة السياسية. ولعل هذا هو موضع الخلاف بين التيارات النقدية التي تضع الدولة في عهدة الاجتماع البشري، حيث أقامت جل المجتمعات الإنسانية لنفسها سلطات مختلفة بمجرد أن تجاوزت مستوى البدائية، ونطاق العشيرة. وبين التيارات السلفية التي تضعها في عهدة الدين، بحيث يقتضي وجود مجتمع مسلم قيام سلطة سياسية مائزة، ذات سمات قدسية متعالية على التاريخ، وهو ما نعارضه هنا، بدليلين: أولهما نظري، إذ يبقى الإنسان متديناً ولو عاش منفرداً لأن الإيمان اعتقاد فردي، وطالما خلا الدين من الكهنوت يصبح قادراً على البقاء من دون سلطة وتلك فضيلة إسلامية. ولو أننا تصورنا مجتمعاً مثالياً يحكم الناس فيه ضمائرهم فقط، لن نكون في حاجة إلى سلطة، فالسلطة مطلوبة لتنظيم حركة المجتمع، وفرض القانون حتى لا تثور الفوضى، وليست مطلوبة للرقابة على ضمير المؤمن، أو فرض الإيمان على المنكرين. وقد عاشت أقليات دينية كثيرة، محافظة على إيمانها، تحت سيطرة سلطات مغايرة لها عقدياً. بل أكثر من ذلك نجد أن أصحاب العقيدة غالباً ما يصبحون أكثر تمسكاً بها إذا تعرضوا للاضطهاد، والمسلمون أنفسهم في المرحلة المكية، قبل تكوين مجتمع/ دولة المدينة، لا يخرجون على هذه القاعدة. وثانيهما تاريخي يتمثل في تعدد التطبيقات التي جسدت معنى «الدولة» في التجربة الإسلامية الباكرة، والتي لا يمكن اعتبار إحداها هي الصحيحة وتخطئة ما عداها. فقد جسدت دولة المدينة سياقاً تاريخياً جمع بين النبوة والحكم، وكان على رأسها رسول (صلى الله عليه وسلم) يستلهم الوحي الذي يوجهه ويعاتبه، بقدر ما كان يوجب على المؤمنين طاعته، وهذا بالطبع ما لا يتأتى لأي دولة أخرى، حيث انتهت هذه الدولة الفريدة بموت النبي الذي لم يكن حاكماً بقدر ما كان رسولاً، وقاضياً. وبعد وفاته لم تكن هناك تقاليد (شرعية) لاختيار خلفائه (الراشدين)، ولا تقاليد (دائمة) لانتقال السلطة إليهم، فتولى كل منهم في ظل ملابسات سياسية مغايرة لسابقه. وقد رأينا كيف بايع عمر أبا بكر في اجتماع السقيفة. وكيف اختار أبو بكر عمر، فبايعه المسلمون. وفي عصر الرجلين تبلورت صورة المثل الأعلى للحاكم في الإسلام، حول جملة من المبادئ يأتي على رأسها الشورى والزهد والعدل. هذا المثل الأعلى هو ما أخذ في التدهور نسبياً مع الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فكانت الفتنة التي أودت به. ولما تولى الإمام علي وقعت الفتنة من معاوية، وتحولت الخلافة إلى ملك عضوض. ومع يزيد بن معاوية بات التحول كاملاً، وعاصفاً نحو الملك الوراثي. وهنا يكمن الالتباس الشديد بين فقدان المثل الأعلى الإسلامي للحكم، وبين فقدان ما يعتبره البعض «الدولة الإسلامية»، فما حدث في التاريخ ابتعاداً من تجارب الحكم الإيجابية والفعالة (الراشدة)، لم يكن تنازلاً عن نظرية الإسلام السياسية (الشرعية)، بل تدهوراً في قدرة الحكام على تجسيد هذا المثل الأعلى، الذي يظل قائماً رغم ذلك، وعبر كل العصور بانتظار من يجسده عبر كل وأي جسد سياسي، فالمهم في الإسلام ليس شكل الدولة، فهو أمر تاريخي، بل المثل الأعلى الإسلامي المتجاوز للتاريخ، والقادر دوماً على إلهامه. ولعل الفارق الجوهري إذاً بين السلطة كنتاج تاريخي للاجتماع البشري لدى التيار النقدي، والدولة الإسلامية كنموذج متعين لدى التيار السلفي، يكمن في مصدر الشرعية وهل هو الناس/ الشعب/ الأمة كوجود إنساني ناضج بما يكفي لأن يقرر مصيره في التاريخ، أم أنه الشريعة نفسها. فإذا صارت الأمة مصدراً لشرعية الاجتماع الإسلامي، كأي اجتماع إنساني، وظلت الشريعة بمثابة الأصل القيمي/ المرجعي الذي يشي بإسلاميته، تنحل الإشكالية، إذ يستطيع المسلمون إقامة سلطتهم على أمورهم في كل مرحلة تاريخية، شرط أن تقوم هذه السلطة، أياً كان شكلها، أو كيفية تشكيلها، على حفظ المقاصد العليا للشريعة. وهنا يبقى الإسلام محققاً شموله الوجودي للدين والدنيا، من دون دولة دينية. وأما القول إن الشريعة نفسها هي مصدر الشرعية وليس الأمة، فيفتح الباب تلقائياً بعد خطوة واحدة أو خطوتين، على الدولة الدينية، لأن الشريعة لا تُفَصل ولا تمارس إلا من خلال بشر. وهنا ينمو الكهنوت السياسي عبر تأويلات واختزالات متتالية في خضم الإجابة عن أسئلة من قبيل: من الذي يستقي جوهر الشريعة من النص الإسلامي؟ وإذا كانت الإجابة التقليدية الجاهزة هي أهل الحل والعقد يبقى السؤال: من الذي يختارهم في كل عصر؟ وكيف يتفقون إذا ما اجتمعوا وقد اختلفوا إلى درجة التقاتل منذ العصر الراشد بكل ألقه الروحي، فما بالك بزماننا المفرط في أنانيته؟ وإذا ما اختلفوا فإلى من يحتكمون لحسم الخلاف بينهم؟ وهل هناك من هو أكثر فقهاً منهم ليكون مرجعاً لهم يطيعون حكمه فيهم؟ وحتى إذا كان اتفاقهم ممكناً بعد هذا كله حول ما نزل فيه نص فكيف يكون الأمر في ما أتى به الزمان من معطيات جديدة. هل يحتكمون فيها إلى أولى الاختصاص لتقرير مصالح الناس، أم يهدرون المصالح على مذبح الشريعة، فإذا ما أهدروا المصالح يكونون قد أهدروا الإسلام لأن الإسلام ليس إلا المسلمين في النهاية. وإذا لجأوا إلى المختصين في كل أمر حياتي خارج عن أصول الشرع ففيمَ يكون جوهر حاجتنا إليهم؟ وما الفارق الموضوعي الذي يميزهم هنا عن سلطة مدنية يختارها الناس بطريقتهم، ويعزلونها بطريقتهم، بحسب ما يتيح لهم زمانهم، طالما أنها ستحمي مقاصد الشريعة الأساسية؟ المؤكد هو أن الفارق يبقى لمصلحة سلطة الأمة التي تتوافر لها فضائل ثلاث أساسية قياساً إلى سلطة أهل الحل والعقد: الأولى كونها اختيار البشر، ومن ثم فهم يستحقونها إذا كانت خيراً جزاء يقظتهم، أو شراً عقاباً على إهمالهم تكريساً لحرية الإرادة الإنسانية. والثانية أنها قابلة للتغيير من دون خشية الوقوع في الإثم، ما يحفز ديناميكية الفعل ورغبة التأثير في التاريخ. والثالثة أنها لا تسيئ إلى الشريعة فيما لو أساء الناس الاختيار، حيث يبقى الإسلام بريئاً من غفلتنا، ومشيئة الله متسامية على فسادنا، فلا تستحيل شرعية المقدس غطاء لخطايا التاريخ. * كاتب مصري.