لم تعد أفريقيا مغنماً وحسب للقوى الدولية القادمة من الغرب والشرق، بل أصبحت أيضاً مغنماً لبعض القوى الإقليمية الراغبة في القيام بدور مؤثر، أو الساعية للدفاع عن مصالحها الواعدة، عبر امتلاك شبكة جيدة من العلاقات ورزمة مُحكمة من الأوراق المهمة. فخلال الأعوام الماضية تقاطرت دول مثل الصين والهند وتركيا وإيران لإيجاد موطئ قدم سياسي بغلاف اقتصادي والحصول على مزايا نوعية في مجالات متفرقة. وتوقف كثيرون أمام الزيارة التي قام بها رئيس إيران محمود أحمدي نجاد لكل من زيمبابوي وأوغندا من 22 إلى 24 نيسان (أبريل) 2010، واعتبروها دليلاً على عزم طهران على مزيد من الاقتراب والاختراق للقارة السمراء، خصوصاً أنها جاءت عقب سلسلة من الزيارات لمسؤولين كبار لدول إفريقية مختلفة، أبرزها زيارة الرئيس السابق محمد خاتمي لسبع دول، هي: نيجيريا والسنغال ومالي وسيراليون وبنين وزيمبابوي وأوغندا، في كانون الثاني (يناير) عام 2005، والتي كانت النواة الحقيقية للإعلان عن دور فاعل لإيران في أفريقيا. لم تكن زيارة أحمدي نجاد زيمبابوي وأوغندا الأولى له في إفريقيا، فقد سبق للرجل أن ذهب إلى السنغال وزامبيا في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وقبلها بنحو عامين أعلن وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي أمام قمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت في أديس أبابا (كانون الثاني 2008) أن هذا العام سيشكل «حدثاً مهماً في العلاقات بين إيران وإفريقيا». وعلى هذا المنوال توالت الزيارات المتبادلة، سراً وعلناً، لتؤكد ارتفاع حجم الاهتمام الإيراني بالقارة وارتفاع سقف المصالح معها. ولعل التركيز على نسج روابط شعبية أحد الأدلة التي تكشف أن طهران مصممة على تشييد علاقات تحتية جيدة في ربوع إفريقيا. كما أن حرصها على استغلال الفرص ساهم في توطيد حضورها المادي وعزز من وجودها المعنوي. فعندما قامت موريتانيا بقطع علاقاتها مع إسرائيل قبل عامين تقريباً، أعلنت إيران استكمال بناء المستشفى الذي كانت إسرائيل شرعت في تشييده في نواكشوط. وكذلك قررت إيران بناء نظام للماء والصرف الصحي في مدينة طوبى في السنغال (التي زار رئيسها عبدالله واد طهران أربع مرات) كان من المفترض أن تموله إسرائيل. على رغم أن كل زيارات القادة الإيرانيين إفريقيا كانت مصحوبة بشيء من الطرب والصخب، إلا أن زيارة أحمدي نجاد لكل من هراري وكمبالا أخيراً كانت هي الأكثر ضجيجاً. فخلالها وقع الرئيس الإيراني مجموعة كبيرة من الاتفاقيات المعلنة، أهمها في مجالات التنمية والسياحة والتعليم والصحة والمواصلات والتكنولوجيا، وهو ما أكد أن طهران تريد توسيع نطاق وجودها ونفوذها في القارة. ومع أن محتويات هذه الجولة تبدو عادية، غير أنه جرى التضخيم من مضامينها الأمنية وأهدافها السياسية، وكأنها فتح إيراني لإفريقيا. وانصب الصخب واللغط على بعض الزوايا، التي ربما تكون لها تداعيات مستقبلية. أثناء زيارة أحمدي نجاد زيمبابوي، تعمد رئيس إيران استخدام شيء من تصريحاته النارية المعروفة، ربط فيها بين النظام في البلدين من حيث وقوعهما تحت طائلة الاستهداف. وقال: «إن الدول السلطوية والاستكبارية والاستعمارية تكنّ العداء لإيران وزيمبابوي، بسبب وقوفهما في وجه المصالح غير المشروعة لهذه الدول». وألمح بعض الدوائر إلى أن الهدف من الزيارة الاستفادة من مخزون زيمبابوي من اليورانيوم. وفي المحطة الأوغندية، تم التلويح برغبة طهران في تمويل عدد من مشاريع التنمية والمياه والري، وتوثيق العلاقات السياسية، على اعتبار أن أوغندا عضو غير دائم في مجلس الأمن، ويمكن أن تصبح صوتاً مؤيداً لإيران، من الناحية المعنوية، في المعركة الديبلوماسية التي تخوضها طهران مع بعض القوى الغربية. كان الكلام حول سعي إيران للحصول على اليورانيوم من زيمبابوي يدور في بعض الكواليس الإفريقية وفي إطار من التكهنات والتخمينات التقليدية، فلم تظهر معلومات مؤكدة حول هذه المسألة، لا من طهران ولا من هراري أو من غيرهما، حتى طلعت علينا صحيفة «صنداي تليغراف» في عددها الصادر فى 25 نيسان 2010 مؤكدة هذه العلاقة. وأن طهران أبرمت مع هراري صفقة سرية لاستخراج احتياطاتها غير المستغلة من مناجم اليورانيوم. ونسبت الصحيفة إلى مصدر في حكومة زيمبابوي قوله: «إن إيران حصلت على حقوق حصرية لليورانيوم في شهر آذار (مارس) الماضي عندما زارها ديديموس موتاسا وزير الدولة لشؤون الرئاسة، وتم خلالها التوقيع رسمياً على الاتفاق بعيداً من الأضواء». وأشارت الصحيفة ذاتها إلى أن صفقة اليورانيوم هي ذروة الكثير من العمل، الذي يعود تاريخه إلى عام 2007، حين زار رئيس زيمبابوي روبرت موغابي طهران بحثاً عن النفط. الملاحظ أن هذه المعلومات جرى تسريبها بعد ساعات قليلة من انتهاء زيارة أحمدي نجاد هراري وكمبالا. وفي خضم حملة استنفار محمومة من عدد من القوى الغربية وإسرائيل لفرض عقوبات قاسية على إيران. لذلك يؤدي الكشف عن هذا النوع من المعلومات، بصرف النظر عن درجة الصواب والخطأ، إلى تحقيق رسالتين أساسيتين. الأولى، التحذير من أن إيران تمتلك بدائل لمدها باليورانيوم. فإذا كانت موسكو بدأت تعيد حساباتها مع طهران وتميل نحو الموقف الغربي المناهض لها، فإن الأخيرة لديها مخازن متعددة يمكن استثمارها في هذا الفضاء. وتعيد إلى الأذهان ما حدث بين طهران ودولة جنوب أفريقيا إبان فترة الحكم العنصري. وبالتالي يجب عدم التهاون مع إيران في ملف العقوبات. والثانية، تصوير النظام الإيراني في شكل الأخطبوط الذي يمد أذرعه في الاتجاهات كافة. تارة في أميركا اللاتينية وأخرى في أفريقيا. وهذا المعنى، ليس مقصوداً به إثارة المزيد من مخاوف الدول الكبرى فقط، لكن تنبيه القوى الإقليمية التي تملك حزمة من المصالح الحيوية في القارة السمراء وتحذيرها من مخاطر الشبح الإيراني. يرمي الترويج لهذا الاتجاه إلى إيجاد أعداء جدد لطهران داخل القارة الإفريقية. وكما أفلحت الدعاية الغربية في حرف كثير من الأنظار بعيداً من برنامج إسرائيل النووي المكتمل والتركيز على برنامج إيران المحتمل، يمكن تكرار المشهد ذاته، حيال ما يتردد حول دور إسرائيل الفعلي في تغذية بعض الصراعات الإفريقية ودور إيران المنتظر أن يؤدي نتيجة قريبة من ذلك. ولا أعلم هل هي مصادفة أن يتصاعد الخلاف بين مصر والسودان ودول منابع النيل، في الوقت الذي كان الرئيس الإيراني يستعد لزيارة أوغندا؟ سواء كانت مصادفة أم خطوة محسوبة ولها ارتباط بالخلاف بين دول حوض النيل، فالنتيجة الواضحة هي تحويل السباق بين إيران وإسرائيل في إفريقيا، إلى تنافس بين طهران وبعض العواصم العربية، لا سيما القاهرة التي لديها شبكة واسعة من المصالح الاستراتيجية في القارة السمراء. وعلى ذلك تتحمل إيران وحدها الكثير من الأوزار التي يتردد أن إسرائيل قامت بها في إفريقيا. والخطورة أن الأجواء الراهنة على صعيد التباعد بين إيران وبعض الدول العربية، تعزز هذا الاحتمال، وتساعد على انتقال أدوات التباين بين ما يوصف بتيار الاعتدال وتيار التشدد من الشرق الأوسط إلى إفريقيا. وفي الحالتين هناك دول عربية ستكون قاسماً مشتركاً وقد يفرض عليها دخول مواجهة حتمية. وفي هذا السياق بدأت بعض الدراسات الإسرائيلية عملية محسوبة لتسويق هذه البضاعة. ومنها دراسة صدرت أخيراً عن مركز معلومات الإرهاب والاستخبارات التابع للموساد، تحدثت عن نشاط إيران في القارة. وركزت على أن تحركات طهران تستهدف مصر والسودان ودول حوض النيل ونشر المذهب الشيعي واحتضان الجماعات المتشددة في إفريقيا. في كل الأحوال، فتحت زيارة أحمدي نجاد الباب لتكريس تعدد مصادر الخلاف مع إيران. ومع أن من حق طهران تكتيل أصدقائها وتوسع دوائر تحالفاتها، لكن عليها ألا تتغافل عن طبيعة موازين القوى في القارة، والتي تقول إن الغرب يملك جملة من أدوات البطش في إفريقيا، وإن دول القارة التي تميل إلى تنويع علاقاتها حفاظاً على مصالحها، هي نفسها التي ارتمى ولا يزال الكثير منها في أحضان القوى المناوئة لإيران. فلا يعقل أن تتحول أوغندا من شرطي واشنطن في شرق إفريقيا إلى حليف قوي لطهران. ومهما كان الخلاف بين هراري ولندن، فالأخيرة لديها مقومات فاعلة للضغط الداخلي. الأمر الذي ظهرت تجلياته في وصف معارضي موغابي لزيارة أحمدي نجاد بأنها «خطأ كبير». وهو ما يفرض في حصيلته النهائية على نظام موغابي إمكانية تغيير توجهاته. وإذا كانت إيران أرادت توصيل رسائل عدة الى من يهمه الأمر، فعليها مراعاة المشاكل التي يمكن أن تنجم عن الرسائل التي تضل العناوين. * كاتب مصري