يشهد النظام الدولي عدداً من التحولات التي تبدو أكثر وضوحاً مع انجلاء عاصفة الأزمة المالية العالمية التي خلّفت الكثير من التداعيات، شأنها شأن الحرب التي لا تزال تدور في أفغانستان والعراق، من بينها التشديد على انتهاء عهد الأحادية القطبية المطلقة وبِدء التوجه نحو فترة انتقالية باتجاه نظام عالمي غير واضح المعالم بعد تقوده الولايات المتّحدة بما توافر لديها من قوّة. وتتنافس فيه غالبية القوى لحجز مكان على خريطة المشاركة في صنع القرار العالمي بخاصّة القوى الصاعدة منها كروسيا والصين والهند والبرازيل. وتشكّل الأزمة النووية الإيرانية اليوم فرصة ذهبية لكل من يريد استعراض قوته المستجدة على الساحة الدولية إن من ناحية القدرة على إدارة الأزمة أو من ناحية التأثير في مجريات الأحداث أو في مواقف الأطراف. وتعدّ البرازيل آخر اللاعبين المنضمين إلى رقعة الشطرنج الإقليمية والطامحة إلى حجز دور تحت الأضواء من خلال الوساطة التي قدّمتها في الملف النووي الإيراني. البرازيل قوّة صاعدة تسعى البرازيل إلى لعب دور عالمي أكبر مستفيدة من المقومات الذاتية السياسية والاقتصادية التي تخوّلها لعب مثل هذا الدور. فهي تحتل المرتبة الخامسة عالمياً من حيث عدد السكان وأيضاً من حيث المساحة، كما وتمتلك حالياً أضخم اقتصاد في أميركا اللاتينية وثاني أكبر اقتصاد في قارة أميركا. واستطاعت برازيليا تجاوز المأزق الذي كاد أن يطيح اقتصاد البلاد مع بلوغ معدلات التضخم قبل حوالى 20 عاماً نسبة 2477 في المئة، لتقفز الآن إلى مرتبة ثامن أكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، مع معدلات نمو تعد من بين الأعلى في العالم، وباحتياطي عملات يبلغ حوالى 250 مليار دولار ويضعها في المرتبة السابعة عالمياً. امّا السياسة الخارجية للبلاد، فقد خطت منذ العام 2002 وحتى اليوم خطوات سريعة نحو الانخراط الدولي الفعّال، أي خلال عهد الرئيس الحالي لولا دا سيلفا الذي يعتبر أنّ بلاده هي الدولة الأكثر جاهزية لتكون في كل مجموعات الكبار، فقد تمّت دعوة البرازيل لحضور أو الانضمام إلى مختلف هذه المجموعات (G7, G8, G8+5, G20). كما لعبت البرازيل دوراً فاعلاً في ولادة تجمّع الدول الصاعدة (BRIC) الذي يعبّر عن التحوّلات التي يشهدها النظام الدولي من ناحية صعود قوى دولية تسعى إلى لعب دور أكبر على الصعيد العالمي. وقد استضافت البرازيل القمّة الثانية لهذا التجمّع في نيسان (أبريل) الماضي، حيث طالب التجمّع بنظام عالمي جديد أكثر عدالة وديموقراطية، وهو ما ينسجم مع مطالبة برازيليا أخيراً بإجراء تعديلات جذرية على نظم عمل المؤسسات الدولية والمالية، بخاصة في ما يتعلق باتخاذ القرارات والإشراف والمراقبة على الأسواق المالية، واقتراحها تحديد منتدى عالمي جديد للحوار السياسي والاقتصادي والمالي. وتسعى برازيليا للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن من باب اهتمامها بالمساهمة الفعالة في المنظمات الدولية والتواصل مع المجتمع الدولي، ولا ينفصل ذلك عن رؤيتها المطالبة بإصلاح الأمم المتّحدة بما يتلاءم مع التطورات الكبيرة التي حصلت على الصعيد الدولي منذ إنشاء المنظمة بعد الحرب العالمية الثانية. ويأتي موقع البرازيل كقوة صاعدة ترجمة لوعود الرئيس البرازيلي الذي تعهد عند انتخابه بنقلها إلى مستوى أعلى ومنحها المكانة المرموقة التي تستحقها على الصعيد الدولي، انطلاقاً من تركيز السياسة الخارجية بداية على أميركا الجنوبية والانتقال بعدها إلى مختلف القارات. وعلى رغم أنّ البرازيل لا تقدّم نفسها عادة كدولة معادية أو مشاكسة للولايات المتّحدة أو حتى منافسة لها في منطقة معيّنة من العالم، الاّ انّها تحرص دائماً على تأكيد استقلاليتها وعدم قبولها منطق التعليمات والدروس، وقد ساهم صعودها على المسرح الدولي خلال السنوات القليلة الماضية في تعزيز ثقتها بنفسها وبسياستها هذه، وهو الأمر الذي أوجد بعض التوترات. البرازيل في دائرة الشرق الأوسط وقد نشطت الديبلوماسية البرازيلية أخيراً في عدد من الملفات الملتهبة كعملية السلام في الشرق الأوسط والأزمة النووية الإيرانية عارضة لعب دور الوسيط في الملفين كمحاولة كما يبدو للقول: «البرازيل موجودة بقوّة على الصعيد العالمي»، في وقت يشكك كثيرون في قدرتها على تحقيق أي انجاز حيث فشل الكبار، عازين الموقف إلى انّه مجرد حملة علاقات عامة لمحاولة الظهور على الساحة العالمية. وترى البرازيل في الحوار الدائر حول البرنامج النووي الإيراني الآن فرصة لإعادة النقاش حول نظام منع الانتشار النووي برمته بخاصّة أنّ تطبيق هذا النظام يخضع لاستنسابية القوى الكبرى ويتم تطبيقه في شكل انتقائي. وينطلق الموقف الرسمي لبرازيليا في الملف النووي الإيراني من عدد من الثوابت، منها: 1- دعم حق إيران في تطوير تكنولوجيا نووية للاستخدامات السلمية. 2- إعطاء طهران المزيد من الوقت لإثبات الطبيعة السلمية لبرنامجها ونفي الطابع العسكري عنه. 3- رفض فرض المزيد من العقوبات على قاعدة عدم كفاية الأدلة لإدانة إيران من جهة، ولأنه لا تزال هناك فسحة من الوقت للتعامل مع الأزمة النووية، تمتد إلى شهرين أو ثلاثة أشهر أخرى. 4- رفض امتلاك إيران السلاح النووي. وتتخوّف البرازيل من أن تكون العقوبات أداة للتدخّل لاحقاً كما حصل مع العراق، بخاصّة أنّ وزير الخارجية البرازيلي سيلسو أموريم ذكر مراراً أنّ آخر مرّة حاول فيها مجلس الأمن فرض عقوبات جماعية من دون أدلّة قاطعة انتهى الأمر بالعالم إلى القيام بتدخل غير شرعي في العراق أدى إلى احتلاله وتقويض مبدأ الأمن الجماعي. كما وتعتبر وجهة النظر الرسميّة أنّ من شأن العقوبات أن تعقّد الموقف، وأنّ تدفع سياسة الضغط والعزل التي تتّبعها واشنطن في مواجهة طهران إلى تشدد الأخيرة وبالتالي السعي لامتلاك السلاح النووي كرادع. وكان وزير خارجية البرازيل قال خلال زيارته الأخيرة لطهران إن بلاده على استعداد لاستضافة عملية تبادل الوقود بين إيران والغرب إذا طلب منها ذلك، فيما نقل عن الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد أنّه وافق «مبدئياً» على قيام البرازيل بوساطة في هذا الإطار، فيما من المنتظر أن يتوجه الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا إلى طهران في وقت لاحق الشهر الجاري بالتزامن مع زيارة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حيث تنسّق كل من برازيليا وأنقرة في هذا الموضوع. ما وراء الدعم البرازيلي لطهران لكنّ الحقيقة أنّ البرازيل تعلم جيّداً مدى خطورة الوضع الإيراني الحالي بخاصّة أنّها كانت قد شرعت بنفسها في السبعينات بممارسة أنشطة نووية سرية إلى جانب برنامجها النووي السلمي المعلن، فقد كانت للبرازيل ثلاثة برامج عسكرية نووية سريّة بين أعوام 1975 أو1990 يرتبط كل منها بجهة خاصة في القوات المسلّحة ولم يساعد في إيقافها سوى الضغوط القوية التي تعرّضت لها آنذاك. ويبدو أنّ موقف البرازيل يأتي من خلفية أعمق من مجرّد دعم حق إيران في استثمار الطاقة النووية السلمية. فقد يرتبط الموضوع بطموح البرازيل التحوّل إلى قوّة عظمى حتى من الناحية العسكرية، وهو ما تعكسه الإستراتيجية القوميّة الدفاعية للبلاد والتي تمّ الكشف عنها أواخر العام 2008 وتنص على الذهاب باتجاه انتاج غواصات نووية محليّة الصنع. كما قد يرتبط أيضاً بمسألة تفعيل برازيليا أنشطتها النووية التي كان الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا قد أعلن قبل سنتين ونصف سنة عن استئنافها بعد توقفّ دام قرابة ال20 عاماً بالتزامن مع الإعلان عن نيّة تصنيع أول غواصة نووية محليّة الصنع. ومن الملاحظ أنّ للدعم البرازيلي لإيران أوجهاً عدّة، فهو يعكس حرصها كدولة نامية صاعدة على التواصل مع كل الدول النامية، إضافة إلى ما يمليه عليها صعودها الدولي وعطشها المستقبلي للطاقة من ضرورة تعميق العلاقات مع الدول النفطية ومن بينها إيران بطبيعة الحال على رغم أنّها تتمتع باكتفاء ذاتي إلى الآن. ويبدو أنّ برازيليا مهتمة أيضاً ببناء المزيد من المفاعلات النووية، وهي تراقب عن كثب السياسة الدولية تجاه إيران في مجال تطوير التكنولوجيا النووية، هذا عدا عمّا للموضوع من صلة أيضاً بنفوذ البرازيل الاقتصادي المتنامي في العالم، وفي الشرق الأوسط حيث تعتبر من أكبر مصدّري الغذاء إلى إيران. صحيح أن البرازيل ليست عضواً دائماً في مجلس الأمن لتمنع صدور قرار يفرض المزيد من العقوبات على إيران خلال المرحلة المقبلة، لكنّها تحتل مقعداً غير دائم داخل المجلس حالياً، كما أنّها تتمتّع بعلاقات جيّدة على الصعيد الدولي بخاصّة مع مجموعة الدول الصاعدة، وتلعب دوراً حيوياً داخل مجموعة عدم الانحياز، وباستطاعتها إما تسهيل مرور العقوبات وجعل المسألة أكثر ليونة سواء في مرحلة إعداد القرار وصدوره أو في مسألة تطبيقه ومتابعته من خلال عضويتها في المؤسسات الدولية وعلاقاتها، وإمّا تعقيد الأمور وتصعيب هذه المهمّة على الطرف الأميركي. ويخشى الأميركيون أن يؤدي موقف الصين مدعوماً بالموقف المتشدد لبعض الدول من هذه العقوبات كالبرازيل ومعها تركيا والهند إلى فشل الجهود الرامية إلى جعل العقوبات الجديدة أكثر صرامة وقوّة وتأثيراً، وهو ما قد يدفع واشنطن إلى إعادة حساباتها تجاه السياسة العالمية من جهة وتجاه طبيعة علاقاتها مع هذه الدول من جهة أخرى.