تقدمت باقتراح في الجلسة الختامية لمؤتمر «مؤسسة الفكر العربي» الذي عقد في العاصمة اللبنانية بيروت مع بداية خريف 2009 مؤداه أن توجه المؤسسة المرموقة دعوة من خلال رئيسها الأمير خالد الفيصل من أجل عقد قمة عربية ثقافية إسوة بالقمة الاقتصادية العربية التي عقدت في الكويت قبل ذلك. وعلى رغم محاولات السطو على فكرتنا واقتراح «مؤسسة الفكر العربي»، فإن الجميع يدركون في أعماقهم أن الدعوة إلى القمة الثقافية العربية هي ابنة شرعية للجلسة الختامية لمؤتمر المؤسسة حول التعليم والثقافة والنشر، وكان على الذين رددوا الدعوة بعد ذلك في محافل أخرى أن يلتزموا بأمانة النقل وأن يردوا الفضل لأصحابه وأن ينسبوا الاقتراح إلى «مؤسسة الفكر العربي» التي دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية رئيسها مع حشد من العقول العربية من مختلف الأفكار والتوجهات في جلسة عصف ذهني لمناقشة الفكرة وتقليب إمكانية تحقيقها واحتمالات نجاحها، وقد اتسمت تلك الجلسة بعمق النظرة وسلامة التحليل وانعقدت كلمتها على أهمية تلك الدعوة التي جاءت في وقتها لتلبي روح التوافق مع العصر والتواؤم مع الآخر وفهم ما يدور حول الأمة العربية سلباً وإيجاباً في هذا الظرف الدولي والإقليمي الذي يستوجب من العرب كل أسباب اليقظة، فكل المتغيرات التي طرأت على عالمنا في العقود الأخيرة توحي ببروز أهمية العامل الثقافي في العلاقات الدولية المعاصرة بدءاً من العولمة وصولاً إلى الحرب على الإرهاب ومروراً بنظرية صراع الحضارات، فالقاسم المشترك بين هذه جميعاً هو البعد الثقافي والمحتوى الإنساني الذي يجعل الاختلاف الثقافي أهم أسباب الصراعات في عالم اليوم. وقد حضر تلك الجلسة رئيس اتحاد الكتاب العرب الذي كان حاضراً في الجلسة الختامية لمؤسسة الفكر العربي التي أشرنا إليها والتي تقدمت فيها بذلك الاقتراح أمام الأمير خالد الفيصل وبحضور وزير الثقافة اللبناني واستقر في ضمير الجميع أن أحد أعضاء مؤسسة الفكر العربي وهو كاتب هذه السطور هو الذي تقدم باقتراح الدعوة إلى عقد قمة ثقافية عربية بعد أن ألحت على خاطره الفكرة منذ فترة ليست قصيرة. لذلك فإن «مؤسسة الفكر العربي» كانت هي الداعية الرائدة لتلك الفكرة قبل أن ينقلها عنها ويرددها من حضروا جلسة الدعوة وبدأوا ينسبونها إلى أنفسهم في مخالفة للحقيقة المعروفة للجميع. والآن دعنا من هذه الثرثرة، فالحقيقة أوضح من أن تغيب كما أن الشهود على ما نقول أحياء بحمد الله. وسأستعرض في المحاور الآتية المؤثرات التي توضح لنا عموماً أن الثقافة العربية همٌّ عصري نتساءل أحياناً هل هو نقمة أم نعمة نعيش بها ونتعايش معها؟! وأوجز ما أريد أن أقول في النقاط الآتية: أولاً: قد يتصور البعض أننا نعني بالثقافة ذلك التاريخ الفكري وتراكم الموروثات بحيث نقف عند هذا الحد، بينما ما نعنيه يتجاوز ذلك بكثير ليصل إلى سلوك البشر وكيفية التعامل وأساليب التفكير فضلاً عن مجموعة القيم الحاكمة والتقاليد المسيطرة. وبهذا المعنى فإن الثقافة العربية ليست تراثاً وأدباً وفناً فقط ولكنها تعبير مباشر عن سلوك المجتمعات العربية وكيفية تناولها القضايا المختلفة والمسائل ذات الاهتمام المشترك. ثانياً: إن التقاليد العربية التي تواترت مع الأجيال قد صنعت سوابق في التعامل بين العرب وغيرهم. فإحساس العربي بالزمن وفهمه الموقع الذي يعيش فيه يؤهلانه لكي يكون قادراً على التعامل مع الحاضر وارتياد المستقبل. ولا يتصور البعض أن تاريخ المجتمعات قابع في الكتب والمخطوطات، ولكنني أزعم أنه يوجد في القيم والتقاليد والعادات، من هنا فإننا عندما نتحدث عن الثقافة العربية فإننا نعني بها أيضاً ذلك السلوك الإنساني وردود فعله وأساليب تفكيره والأفكار التي ينطلق منها والعقائد التي يعتنقها، فذلك هو المفهوم الشامل للمعنى المعاصر للثقافة. ثالثاً: يصيبني الفزع أحياناً عندما أتصور أننا كعرب نبدو خارج دائرة العصر وكأننا معزولون فكرياً وحضارياً عن أمم كثيرة وشعوب معاصرة وهذه النقطة بالذات تبدو أحد الأسباب الرئيسة للتخلف في عالمنا الذي نعيش فيه ونتعايش مع تطوراته. رابعاً: إننا يجب أن ندرك أننا لا نعيش وحدنا وأن الدنيا لنا ولغيرنا ويجب ألا نتصور أبداً أن منا من أوتي الحكمة واحتكر المعرفة، فواقع الأمر يختلف عن ذلك، إذ إن التواصل الحضاري والفهم المتبادل بين البشر هما الطريق الصحيح لتحقيق حياة أفضل وتوظيف الثقافة لخدمة المجتمع انطلاقاً من الوعي بالتاريخ وإدراكاً لثبات عامل الموقع الجغرافي الذي يفرض علينا أحياناً ما لا نريد وقد يسلب منا في الوقت ذاته ما نشاء. إنها معادلة صعبة لا يمكن إنكارها بل يستحيل تجاوزها. خامساً: إنني أظن أن جزءاً كبيراً من مشكلات الأمة العربية يعود إلى أسباب ثقافية، فالحكم الفردي وضعف الديموقراطية وغياب المشاركة السياسية ومركزية القرار، كلها انعكاس لثقافة الأمة وتراثها الفكري والسياسي فنحن أمة تملك رصيداً ضخماً من الحضارة العربية الإسلامية ولكنها لا تعتصم به ولا تلوذ إليه وفي الوقت ذاته فإنها لا تتحرك إلى الأمام بحثاً عن صيغ عصرية في أساليب الحياة وطرق التفكير والتعامل مع الغير، فلا هي استفادت ثقافياً من تراثها ولا استفادت سياسياً مما يدور حولها، وذلك يفسر حالة الجمود التي تعاني منها بعض أقطار الأمة العربية ونظمها المختلفة. سادساً: نصل الآن إلى أخطر النقاط تأثيراً في حياتنا الثقافية وأعني بها الموروث الديني، فثقافتنا دينية أكثر منها قومية وقد تكون إسلامية بقدر ما هي عربية، وهذا التداخل بين الدين والقومية أشعل جذوة التطرف الديني أحياناً والغلو القومي أحياناً أخرى، وإذا كان الدين متجذراً في حياتنا فلا بأس من ذلك ولكن عنصر القلق يأتي من ذلك الخلط المتداول بين الدين والدنيا. فالإسلام السياسي صبغ الحياة العربية بغير ما يساعدها على المضي في عصرنا بتناقضاته ومشكلاته، والعجيب في الأمر أن الإسلام وهو أكثر الأديان السماوية سماحة يجرى استخدامه بهذه الصورة التي تسيء إليه وإلينا في هذا العالم المحتقن بالتطرف والعنف والإرهاب سابعاً: إن واقع الاقتصاد العربي هو انعكاس آخر لثقافتنا وتعبير عن الجانب السلبي فيها، فنحن أمة مستهلكة وليست منتجة على النحو الذي يضعها في مصاف الدول الناهضة، إذ إن اقتصاداتنا استخراجية والتجارة البينية متواضعة، كما أن موارد الأمة العربية لا يتم توظيفها بالصورة التي نأملها وذلك كله انعكاس لتاريخ ثقافي هو الذي سمح بذلك وساعد عليه، فالحياة الاقتصادية انعكاس تلقائي لنمط ثقافة الإنتاج والاستهلاك معاً. هذه ملاحظات ترتبط بالواقع العربي المعاصر وثقافته التي تعبر عن ركام ضخم من القيم والتقاليد والعادات وكلها تشير إلى أمة عربية تحتاج إلى صحوة ثقافية بالدرجة الأولى تخرج بها من كبوتها وتقيلها من عثرتها إذ إن مفاتيح الحل لمشكلاتنا الأساسية هي ثقافية قبل كل شيء ولا يجب على الإطلاق التقليل من قيمة العامل الثقافي أو الاستهانة به لأنه يمثل المتغير المستقل الذي تتبعه عوامل سياسية واقتصادية، فالثقافة هي عقل الأمة ووجدان الشعوب وضمير المجتمعات. ولا يتوهم أحد أننا نستطيع أن نتجاوز الساحة الثقافية بما تموج به من أفكار ومعتقدات وقيم وسلوك، لذلك فإننا حين نكرر الدعوة إلى قمة ثقافية عربية فإننا لا نستحدث بدعة بل إننا نُلبي حاجة. وكما عقدت القمة الاقتصادية، فإن القمة الثقافية تبدو أعمق وأهم وأكثر إلحاحاًً ويجب ألا ننسى أننا أمة الثراء اللغوي والتميز الأدبي، فالشعر هو «ديوان العربية» والعربية هي لسان الأمة الذي يتميز بالثراء والتعدد والخيال والأمل. إننا ننتظر القمة الثقافية العربية التي دعونا إليها وبشّرنا بها لكي تكون مفتاحاً للأمل ونظرة على الغد وتعبيراً عن روح الأمة الواحدة. * كاتب مصري