مع كل كارثة تحلّ يثور لغط ويعلو صياح، فإذا المجتمع فريقان يختصمان: هل ما وقع عقوبة، أم ابتلاء؟! وتشتغل في هذا الشأن العقول، وتُنهك في ذلك الأقلام، كل فريق يحاول التأليب على خصمه، والإشارة إليه بأصابع الاتهام، أما المجرمون المفسدون الذين هم أصل البلاء وسبب الكارثة فهم مسرورون بهذا اللغط والخصومة، وربما كانوا سبباً في افتعالها وإذكائها، وليس ببعيد أن يتبرعوا بطباعة مطوياتٍ ونشرها تتضمن تذكير العباد بأن ما حل بهم إنما كان عقوبةً لهم على ذنوبهم التي لا يُذكر منها سكوتُهم عن الفساد والمفسدين. وفي لجة هذا التشاغل غير المنطقي يخرج المجرم الكبير سليماً معافى بابتسامة صفراء، يتوارى عن الأنظار ومعه صك براءة؛ لأن ما حل إما أن يكون عقوبةً سماوية، وإما أن يكون ابتلاءً، وأياً كان الاحتمال فلا يد له في ما وقع. ويظل المواطن البسيط المغلوب على أمره مع كل كارثة هو الضحية، وهو المذنب المتسبب، يتجرع غصص الفساد ويقع ضحيتَه، ثم يُلهب ظهره بسياط التبكيت والزجر بأنه مذنبٌ، وأن ما ناله إلا بعض جزائه الذي يستحقه. وبشؤم هذا الخطاب الوعظي المجتزئ للحقيقة ببعضها يفهم المسؤول المرتشي والمقاول الراشي الغاش... إلخ أن الكارثة محض عقوبة إلهية سماوية! فامتلاء الأنفاق بالمياه عقوبة ستحلّ ولو كانت مقاولات تصريف مياهها متقنةً على الوجه المطلوب، ومنفذها أميناً مخلصاً. وأن غرق بعض الأحياء بسيولها محضُ عقوبةٍ إلهية على أهل الحي ستحل بهم حتماً، ولو كانت مشاريع تصريف السيول فيها قائمة على أصولها! وإذن على هذا السياق: فالمذنبون هم وحدهم أهل ذلك الحي! فيجب ألا يشتكوا، ويجب ألا ينكروا، ويجب ألا يستدلوا بما حل بهم على فسادٍ ما! وقل مثل هذا لمن غرقت سيارته في أنفاق الموت، أو مات له فيها قريب! صحيح أن أصحاب هذا الخطاب لا يقرون بهذا؛ ولكن ما فائدة هذا إذا كان خطابهم لا يزال يفيد هذا! وصحيح أن الذنوب سببٌ مؤذن بالعقاب؛ ولكن ما بالها الذنوب لا تكون إلا سلوكاً فردياً يُختصر في بعض المعاصي؟! لماذا لا يعد من الذنوب تواطؤ المجتمع على السكوت عن الفساد والمفسدين؟! بل إن اجتراء المجرمين الفاسدين وإمعانهم في غيهم وطغيانهم هو نفسه عقوبة مسلطة على المجتمع الممعن في السكوت عن إنكار منكرات هؤلاء، المتكاسلِ عن الإصلاح والتغيير، فها هو اليوم يعاني ويلات هذا المنكر. إن ما حل ذنبُ مجتمع لا ذنب أشخاص ضعاف، والعقوبة عقوبة مجتمع لا عقوبة أفراد، وقد يكون لبعض الضعاف بلاءً؛ لأنهم لا يستطيعون ما يستطيع غيرهم من مواجهة هذا الفساد العريض. وإذن فيجب ألا يُشغل المجتمع عن القضية الأم في مأساة الكارثة، وهي ملاحقة المسؤولين عنها، المتلاعبين بأرواح الناس وحقوقهم، إلى جدال عقيم يُبرئ المجرم ويجرِّم الضحية المستضعف. أغلوطة أخرى نسمعها كلما حلت كارثة بسبب الفساد المالي والإداري يراد بها التنصل عن المسؤولية وتبرئة المتهمين، مفادها: أن ما حلّ ببعض أحياء الرياض معدود من الكوارث الطبيعية التي تخرج عن حدود الاحتمال والسيطرة!والصحيح في نظر كل ذي ضمير حيٍ أن ما نزل بشمال الرياض ظهر الاثنين الماضي لم يكن بطوفان، ولا فيضان، ولا بإعصار من الأعاصير المغرقة، إنما هو غيث منهمر جادت به السماء على أرض مجدبة، كان جديراً أن يتلقاه الناس بالبشرى وأن يلهجوا بحمد الله وشكره، ولسان حالهم: مطرنا بفضل الله ورحمته، كان الأولى أن يكون كذلك لولا فسادٌ عريض جعل بطون الأودية مساكنَ تباع بأغلى الأثمان، والأنفاقَ مقابرَ مائية بعد أن تتابعت عليها مشاريع بمئات الملايين. نعم إنها كارثة؛ ولكنها ليست طبيعية، بل كارثة سببها الفساد، ليس إلا. أما نسبة المطر فلا تخرج عما هو معتاد في بعض الدول، ولا يصح تصنيفه في دائرة الكوارث الطبيعية؛ كالطوفان والفيضان والاعصار المائي؛ فإن وقوع شيء من ذلك يعني غرق مدن بأكملها على استوائها، وفيضانَ أنهارٍ وأودية لم يطالها تعدٍ بدفن أو إسكان. أما أن تجتمع مياه الأمطار في بطون الأودية والأنفاق، فهذا أمر طبيعي يقع عند تدفق كل سيل، أما ما ليس بطبيعي فهو أن تستحيل الأودية مساكن، والأنفاقُ مقابر، ونعجز عن حل المشكلة مع تضخم الموازنات واعتماد عشرات المشاريع التنموية! [email protected]