جاء رجب طيب أردوغان الى السلطة برصيد شعبي معتبر نَما في السنوات الأولى، وباتَ اليوم متآكلاً في المدن الكبرى التي أعطت فتى الإسلام السياسي المعتدل التأييد والزخم. ولئن كان تداول السلطة من محاسن النظام الديموقراطي، فهو في الحال التركية المرتقبة دليل فشل يتعدَّى البرامج والسياسات، الى جوهر مسألة السلطة ومقدار تحمّل تركيا الحديثة ما شُحن به المجتمع من عقاقير محافظة، دينية الطابع، تحت مسوّغ الإصلاح. ولربما بدأ العدّ العكسي لولاية الحزب الإسلامي منذ أن أرجأ الاتحاد الأوروبي النظر في التحاق تركيا به، واكتسابها صفة العضوية الكاملة، ما يوازي إغلاق الباب أمام دولة فاعلة في الحلف الأطلسي، لاعتبارات ليس أقلَّها الثقافي والمفهوم المدني المؤهّل للاندماج. فجرّاء خذلان المرشح التركي، بخلاف جيرانه في البلقان، اتجه حزب العدالة نحو الشرق، باحثاً عن بدائل تعزّز دوره الإقليمي وموقعه على خريطة جيو-استراتيجية معقدة، أقرب الى قناعاته الأيديولوجية، وأكثر تماسّاً بما رآه نموذجاً يُحتذى به في الحقل الداخلي. في غضون سنوات معدودة، تكاد تركيا أن تستهلك تجربة فريدة أوحت بقلب الأوضاع جذرياً ومغادرة نهج أتاتورك المؤسّس. وحيث استعجل أردوغان ورفاقه الانفصال عن الموروث الحداثي قياساً بالسلطنة المقتلعة، على رغم شوائِبه في مجال الديموقراطية، فقد غالى في اندفاعته، وتحتَّمت عليه مواجهة الاستحقاق الدستوري المقبل وإقناع المواطنين بصحة خياراته ومردود هندساته الخارجية، غير المؤكّد على أرض الواقع لتاريخه. فلا يكفي الترحيب بداود أوغلو وسيطاً بين المحاور في عواصم الإقليم، كما التصفيق لسجال أردوغان مع شمعون بيريز، لاستنتاج التغير العميق في المعادلة وموازين القوى، والرهان على دفء العلاقات سبيلاً الى جني المحاصيل الاقتصادية والاستثمارات بمنسوب يتدفّق كالشّلال، ووتائر عالية تتجاوز المتاح وتتجاهل روابط العولمة ومصالح دولة ناشئة وفق الترتيب العالمي، وبالتالي تتهيأ لدخول نادي النخبة، إنما باتجاه فضاء الإمبرطورية العثمانية السابق وتخومه الطورانيّة والفارسيّة، حاصدة حسن النيات وبعض الارتفاع في المبادلات الذي لا يفي بطموحاتها وحاجاتها التسويقية والتقنية الحديثة. وفي مطلق الحال، ثمّة حواجز يصعب اختراقها، تعود الى متاعب العلاقات الماضية مع الصفوية، والالتزامات الإستراتيجية المتباينة، ناهيك عن محاذير تغييب أو طمس دور المجموعة العربية الوازنة أيّاً بلغت حرارة الغزل السوري - التركي. من الأهمية بمكان متابعة التموضع التركي من دون إهمال حدوده وغاياته، وعلى الأخص ما يتصل بنصرة القضية الفلسطينية والترسيمة الإقليمية الجارية. غير أنّ النقلة التي قامت بها أنقرة، لم يرافقها نشاط موازٍ على صعيد المبادرة، يؤول الى ترجمة عملية فاعلة، باستثناء رعاية المحادثات غير المباشرة (والمتعثرة لإشعار آخر) بين سورية وإسرائيل، المؤيدة ضمناً من الولاياتالمتحدة الأميركية. في مستطاع الطرف التركي الانخراط في عملية أوسع، وهو ما زال مُتردِّداً، يقدم على جذر المسائل بحياء، ويؤثر إرسال الإشارات في انتظار المُستجدّات، كما لو أن الضوء الأخضر لم يعط له صراحة، أو أنّه يتجنّب حرق الأوراق والمراحل بالحكمة والتروِّي. يلمس قادة أنقرة عامل الوقت الممنوح لهم من الناخب التركي، والمرجّح أن تهمد حميّتهم الحوارية إقليمياً خلال الفترة الفاصلة عن الانتخابات، للتمكن من إيلاء القضايا الداخلية رأس الاهتمام، والتفرّغ لمقارعة العلمانيين الجمهوريين والقوميين في آن. ولا يُخفى أن المسألة الكردية عامل يسمِّم الأجواء، ويضاف الى سلّة التشريعات المتنازع عليها، وإلى تبرّم رجال الأعمال من الانعطاف شرقاً، ومسايرة الأوساط المحافظة بغية استمالة أصوات الريفيين وفرض الأمر الواقع على الحداثيين. ذلك أن هذه الأسباب مجتمعة، أخذت تشوِّه سمعة أردوغان كسياسي معتدل محنّك، وتدفعه نحو التراجع عن الضمانات المعنوية التي وعد الجيش والمجتمع المديني بها، ومزيد اقتباس من الصحوة الإسلامية، وتقرّب من حركاتها. سيكون انكفاء أردوغان ورفاقه عن واجهة السلطة بالغ الأثر والدلالة في المحيط، ويشكِّل خيبة أمل لجميع الذين توسّموا خيراً بصيغة الحزب الاسلامي الديموقراطي المعتدل، وأولئك الذين اقتطعوا منها الديموقراطية وصبغة الاعتدال، لأن الشورى في ذاتها البديل والأصل، وهي عين الحكم الرشيد لا يعوزه التوصيف المذكور. بالطبع، لن يزول حزب العدالة من الوجود، لكن إسقاطه سيوجه ضربة قاسية لمنهجه والقائمين عليه في ظروف مفصلية حبلى بالأبعاد والتردّدات. وإذا كان التكهّن راهناً بنتائج الانتخابات مشوباً بالتسرّع في الأحكام، فلا مفرّ من درس هذا الاحتمال، واستباق مفاعيله نظراً لما قد يمثله على صعيد المنطقة، ويحمله من عِبَر سياسية ومشهد جديد. إن عاقبت صناديق الاقتراع الحزب الإسلامي الخارج من رحم إخوانية لفظ لونها الفاقع، فمردّ انسلاخ الجمهور العريض عنه يستوي أيضاً في دائرة النموذج الاجتماعي الذي تشبَّث به دوغمائياً، وأفقده جانباً من رصيد مؤكّد، نزولاً عند مقتضيات شرعية كان يمكن تفاديها وتحاشي ذيولها. كذلك، توغَّل الحزب في مشاحنة المؤسسة العسكرية ومشاغلتها بالملاحقات، الصادقة منها والكيديّة، فيما عمل حثيثاً لترويض القضاء، ما فُسِّر بأنه محاولة إخضاع السلطة القضائية والنيل من استقلاليتها. وفي معظم الميادين، بدا حزب العدالة ميَّالاً الى تعريف مُنقَّح للجمهورية، خرج عن الطبعَة الأصليّة، فما أرضى العسكر ولا واكبَ مزاج المدنيين، بل قلَّصَ المعارضة وأثار الخشية من استمرار حكم حزب واحد يتوسّل تصفية مبادئ الجمهورية بوسائل الشرعية، ولأهداف مقنّعة. إن تركيا ركن وطيد من أركان الاستقرار في الشرق الأوسط العريض، ولا غروْ أن تحظى الحياة السياسية فيها بأعلى درجات المعاينة والمتابعة. ولعلَّ القصور من أسباب جهل غالبية العرب بنية المجتمع والاقتصاد في تركيا، والحراك السياسي المتشعِّب في المدن والأرياف، عدا القليل المنقول في الإعلام. فمن خلال كشوفات الماضي المشترك، يتعيّن مدى الحضور التركي، إثنياً وثقافياً، في دواخل المجتمعات العربية، وضرورة التخفف من مخلفات عقيمة عديمة النفع، سواء تلحفّت بالرداء القومي الضيِّق، أم غاصت في الديني المحض. تركيا التقليدية عريقة في التاريخ منذ مطالع العصر الوسيط، لكنها، فوق ذلك دولة واجهتها حديثة ذات شأن إقليمي يُحسب لها حساب، في غمرة الصراع على الهوية والخيارات. لذا، يأتي أفول نجم حزب العدالة والتنمية حاصل مقوِّمات وتفاعلات في سياق عملية ديموقراطية لا تخلو من أعراض مراكز النفوذ والتناقضات. * كاتب لبناني.