انعقد في مدينة مراكش بين 25 و27/1/2016 مؤتمرٌ دعت إليه وزارة الأوقاف المغربية ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، عنوانه: «حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية». وحضره زُهاء ثلاثمئة من العلماء وقادة الرأي والسياسيين من سائر أنحاء العالَم الإسلامي وديار الاغتراب. وبين هؤلاء زُهاء مئة من أهل الديانات الأُخرى في البلدان العربية والإسلامية، من يهود ومسيحيين من مختلف الكنائس، وإيزيديين وشبك، ومسؤولين دينيين من العالم العربي ومن أوروبا وأميركا. وانقسمت الجلسات إلى ثلاثة أقسام: جلسات للمحاضرة في موضوعات الأقليات وحقوق المواطنة، والتجربة العربية والإسلامية في مجال التعدد الديني، ومشكلات الحاضر. وجلساتٌ أُخرى عبّر خلالها ممثلو الأقليات عما يحدث في ديارهم، وما حدث لهم ووقع بهم من ظلم، والبدائل والخيارات التي يرونها لرفع البلاء عنهم وعن البلدان بعامة. وجلساتٌ ثالثةٌ حرةٌ تحدث خلالها العشرات عن كل ما يتصل بموضوع المؤتمر ومناقشاته. وفي نهاية المؤتمر، صدر إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي. كان المؤتمر افتُتح بكلمة لوزير الأوقاف المغربي الذي أعلن عن رعاية الملك المغربي محمد السادس للمؤتمر، ثم حاضر العلّامة عبدالله بن بيّة رئيس منتدى تعزيز السلم عن صحيفة المدينة التي أقام النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم) بمقتضاها كياناً سياسياً مدنياً في بلدة يثرب، التي سُمّيت بالمدينة بعد هجرة النبي(ص) إليها، والتوصل مع الفئات القَبَلية والدينية المقيمة فيها ومَنْ هاجر إليها من قريش والقبائل الأُخرى إلى تعاقُدٍ مكتوب، نشأ بمقتضاه كيانٌ سياسيٌّ تعددي، تسوده المساواة الكاملة بين الفئات المشاركة فيه، وقد سمّاه المستشرق مونتغومري وات: دستور المدينة. يعلّل إعلان مراكش الحاجة للمؤتمر وللوثيقة بما يسود العالمين العربي والإسلامي من اضطراب، ومن عدوانٍ على الأنفس والأعراض والممتلكات، وما نال وينال الأقليات غير المسلمة والمسلمين أنفسهم من قتلٍ وتهجيرٍ وسبي واستعباد، وتدميرٍ للعمران والإنسان. لقد حصل شبيه ذلك في ظروف حروبٍ أهليةٍ أو عامةٍ في عدة أنحاء من العالم من قبل. بيد أنّ الفظيع في ما يحدث على أرض العرب والمسلمين، أنه يتمُّ من جانب بعض المتطرفين والمجرمين والإرهابيين باسم الدين. وتُحسُّ به أكثر من غيرها الأقليات الدينية التاريخية التي كان لها عيشٌ مشتركٌ ماضياً وحاضراً مع العرب والمسلمين. ولذلك؛ فإنّ إعلان مراكش يبدأ باستعراض «الكليات» في القرآن والسنة والفقه والتجربة التاريخية لجماعة المسلمين. فبمقتضى القرآن هناك تنصيصٌ على كرامة الإنسان، وتنصيصٌ على الحرية الدينية، وتنصيصٌ على قدسية النفس البشرية وصَونها، وتنصيصٌ على العدل في النظرة والمعاملة بالبر والقسط والعهود. وإلى جانب الكليات، يهتم الإعلان من ضمن التجربة التاريخية بالتأسيس الذي قام به رسول الله(ص) عندما كتب صحيفة المدينة لمجتمعٍ تعدديٍّ للمواطنة الكاملة والحقة. فالوثيقة تنصُّ على الفئات المشاركة في التعاقد وهؤلاء بينهم المسلمون واليهود وأبناء وبطون القبائل المختلفة، وهم متساوون في الحقوق والواجبات أو الالتزامات التي تنصُّ عليها الوثيقة بالتفصيل. ويعتبر الإعلان أنه بالنظر إلى الرؤية المستنيرة والمتقدمة التي تعرضها الوثيقة؛ فإنها يمكن أن تشكّل أفقاً مفتوحاً لإقامة مجتمعات المواطنة المتعددة أدياناً وأعراقاً ولغات، قائمة على الإرادة الحرة، وحرية الالتزام. ومن ذلك حرية التدين وحرية التنقل والتملك ومبدأ التكافل ومبدأ الدفاع المشترك ومبدأ العدالة والمساواة أمام القانون. ويلاحظ الإعلان أنّ وثيقة المدينة أو صحيفتها تنسجم مع ميثاق الأُمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان. ويقر الإعلان بأنه كانت هناك مظالم ووجوه هضم واقعة على الأقليات من أهل الكتاب وغيرهم في التجربة التاريخية، لكنها أمورٌ تخالف نصوص القرآن وكليات الشريعة وتعاقُد المدينة. لكنه يرى أنه كان هناك عيشٌ مشتركٌ في الماضي والحاضر، إلى أنّ ظهرت هذه الفئات الإجرامية التي ارتكبت فظائع وجرائم باسم الدين، نالت كثيراً من أمن واستقرار أكثرية المسلمين، لكنها كانت ممضّةً وشديدة القسوة أيضاً وأيضاً على الأقليات الدينية والطوائف والإثنيات. لقد أرادت القضاء على العيش التاريخي والحاضر، واستعباد الناس، وكل ذلك باسم الدين. وفي ذلك تنكُّرٌ لإنسانية الإنسان، ونقضٌ لأصول الشريعة وكليات الدين، وإساءةٌ للإسلام في المجتمعات التاريخية، وتسويد وجهه وسمعته وسمعة المسلمين في العالم ومعه. وبالنظر إلى هذا العنف الهائل الذي يرتكبه هؤلاء المجرمون؛ فإنّ الإعلان يدعو العلماء إلى عملٍ إصلاحي وشجاع يتمثل في توجيه النظر إلى كليات الشريعة في الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، وتغير الأحكام بتغير الزمان، واعتبار أنّ الشريعة استقراءً هادفةٌ دائماً إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة. فأياً تكن الظروف والمواضعات التاريخية في نظر واضع الإعلان؛ فإنه لا إلزام للمسلم ولا التزام إلّا بما تقتضيه مصالحُهُ والظروف المتغيرة المحيطة به. فحتى نظام أهل الذمة أو نظام المِلَل العثماني أو غيرهما إنما ظهرا في سياق واقعٍ مختلفٍ عن الواقع الراهن. ويرى الإعلان أنه يكون على المسلمين وعلى رصفائهم في العيش التعاوُن في ظروف الأزمات. ويعتبر أنّ هذا التعاون هو مقتضى «الكلمة السواء» التي يدعو لها القرآن، وهي كلمةٌ تتجاوز التسامح والاحترام إلى تبادل الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون في كل بلد. ويوجّه الإعلان مطالب إلى سائر فئات الأمة. فعلى علماء المسلمين العمل على تأصيل مبدأ المواطنة. وعلى المؤسسات العلمية والدينية مراجعة المقررات الدراسية للخروج من إسار الثقافة المأزومة التي تولد التطرف والعنف. ويدعو الساسةَ والقانونيين إلى العمل على الوصول لتحقيق شروط المواطنة التعاقدية في دول ناهضة. ويطلب من المثقفين والمبدعين وهيئات المجتمع المدني نشر الوعي بحقوق الأقليات. ثم إنّ مختلف الطوائف الدينية مدعوةٌ إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية متبادلة، والعمل على إحياء تراث العيش المشترك. ثم إنه يجمع بين لغة القانون والاجتهاد الفقهي في إثبات خاتمةٍ للإعلان نصها: «لا يجوز توظيف الدين في تبرير أي نيلٍ من حقوق الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية». إعلان مؤتمر مراكش هو أشجع الإعلانات والبيانات الصادرة عن فرقاء الاعتدال الإسلامي حتى الآن. إذ هو يدعو صراحةً وعلناً إلى دولة المواطنة من دون تحرجٍ ولا اشتراطات. وهو يؤسس الدعوة على قاعدةٍ مركبة إذا صحَّ التعبير: كليات الشريعة التي لا يتطرق إليها الخلل ولا الشكّ لأنها هي المقاصد أو المصالح الضرورية المستنبطة بالاستقراء – ومن جهةٍ أُخرى صحيفة المدينة، التي تشكّل سابقةً تاريخيةً وتشريعيةً في إقامة مجتمعٍ وكيانٍ هو أقرب ما يكون لمجتمع المواطنة المعاصر. إنّ هذا الإعلان، كاتبوه والموافقون عليه معظمهم من الفقهاء المسلمين، وليسوا من السياسيين أو من دُعاة حقوق الإنسان مثلاً. وهذه دلالةٌ أُخرى على أهميته، وإمكان متابعته لعدة جهات: لجهة نقد تحويلات المفاهيم التي قام بها الإحيائيون، ولجهة دفع المرجعيات الدينية لتبنّي أُطروحة مجتمعات المواطنة لأنّ في ذلك مصلحةً للدين، وليس للناس والدول وحسب. ولجهة إمكان إنتاج فقه جديد للعيش يُناظرُ هذا الفقه الجديد للدين ووظائفه. وأخيراً لجهة الذهاب به إلى العالم الأَوسع ليس من أجل تحدي الهجمات على الإسلام فقط؛ بل من أجل مدّ اليد بفقهٍ للسلم والسلامة والسكينة والاستقرار، وعدم الاكتفاء بشتم الإرهاب ومكافحته في الخطاب الديني الجديد. ما هي آثار الإعلان الممكنة؟ حضر الإعلان عشراتٌ من فقهاء المغرب وأفريقيا. وللمغرب حبٌّ وولاء في غرب أفريقيا. بل لقد اكتشفت أنّ الإندونيسيين والماليزيين يأتون للدراسة فيه أيضاً. ثم إنّ علماء كباراً من الأزهر ومن المؤسسة الدينية السعودية، ومن العراق ولبنان وتركيا وآسيا الوسطى، كانوا موجودين ومُسْهمين أيضاً. وهذه أمورٌ واعدةٌ ومبشّرة، وينبغي السير فيها والتعاون في نشرها. وكما أتوقع أن يؤثر الإعلان في الأجواء التي تحترم رصانة فقهاء التقليد العريق؛ أتوقع أيضاً أن تكونَ له آثارٌ واستجاباتٌ في الأوساط الكنَسية المسيحية، وفي الإعلام العالمي.