إذا ذكرت كلمة السيارة أو الحذاء أو مسحوق الغسيل لم يفهم السامع أن الكلام يقصد ضرباً من السيارات أو الأحذية أو المساحيق دون غيره. ولكن في الغرب كلمة «الحبة» هي مرادف واسطة منع الحمل. فيكفي المرء ان يقول الحبة ليعرف سامعه قصده من غير تعيين أو تخصيص. وقبل خمسين عاماً، أجازت منظمة «فود اند دراغ ادمينسترايشن» الأميركية استخدام الحبة. وقصة الحبة مليئة بالتناقضات. فهي أول دواء يتناوله الأصحاء يومياً وفي انتظام. ومخترع الحبة كاثوليكي محافظ كان يحاول اكتشاف دواء يشفي من العقم، فوقع على دواء يكرسه. ولعل وراء تربع الحبة أيقونة تداولها في مرحلة الستينات المفصلية. فعلى خلاف عقد الخمسينات الهادئ والمستقر، توالت الثورات الاجتماعية في الستينات. وطاولت العلاقات بين الأعراق، والأدوار الجنسية، ونزاع الأجيال، والنزاع بين الكنيسة والدولة. وولدت من رحم الثورات هذه تغيرات اجتماعية. ففي الثمانينات، انخفض معدل الخصوبة في الولاياتالمتحدة الى ولدين بعد أن كان 3،6 أولاد، في الستينات. فالصلة وثيقة بين الحبة وتغير بنية العائلة الأميركية. واختلفت نظرة النساء الى أنفسهن. فصورة المرأة العاملة غلبت على صورة ربة المنزل. ويفوق دخل 22 في المئة من النساء دخل أزواجهن. وفي السبعينات، كانت 70 في المئة من أمهات سن أولادهن دون السادسة ربات منزل خارج سوق العمل. واليوم، انقلبت الآية، ودخلت نحو 70 في المئة من والدات اولاد (في سن دون السادسة) سوق العمل. وتبدأ أكثر من 100 مليون امرأة في العالم يومها بتناول الحبة الصغيرة. وعلى خلاف رأي سائد، ترى كلوديا غولدين، وهي خبيرة اقتصادية في هارفرد، أن الحبة لم ترسِ الفصل بين الإنجاب والعلاقة الحميمة. فعهد النساء بالفصل هذا قديم، ولو كان إلمامهن بوسائط منع الحمل غير كامل. فالخصوبة في اوساط النساء البيض بأميركا انخفضت، في 1900، الى 3،5 أطفال، بعد أن كانت 7 اطفال، في 1800. وعلى خلاف نظيرها التقليدي، جبهت واسطة منع الحمل الحديثة، الحبة، بمعارضة واسعة جمعت رجال الدين، على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم، من البروتستانت والكاثوليك، والأرثوذكس الشرقيين والغربيين. وتوفير معلومات عن وسائط منع الحمل كان صنو ترويج اعمال اباحية. فعلى سبيل المثال، حظر الكونغرس الأميركي، في 1873، تداول معلومات عن وسائط منع الحمل. وفي مطلع القرن الماضي، ذيلت اعلانات ادوية «الاضطرابات النسائية»، أي اضطراب العادة الشهرية، بعبارة بارزة تنبّه المرأة الحامل الى مخاطر تناوله «لاحتمال ان يفضي الى اجهاض». وكان التنبيه هذا طبعاً هو موضوع الدعاية، وليس الدواء. ويعود السعي في ابتكار الحبة، والتغيرات الاجتماعية التي ترتبت عليها، الى مارغريت سانجر. وهي ولدت في كورنينغ بنيويورك، في 1879، لأم كاثوليكية ووالد ينحت تماثيل ملائكة صغيرة. فوالدتها فارقت الحياة، وهي في الخمسين من العمر، اثر انجابها 18 طفلاً. وهال سانجر موت والدتها المبكر. وفي أثناء مراسم الدفن، قالت لوالدها: «أنت المسؤول عن وفاتها. فأمي ماتت من كثرة الإنجاب». ودرست سانجر التمريض. وفي 1912، بدأت تحلم بابتكار «حبة سحرية» تحول دون الحمل. وفي 1914، صاغت عبارة «بيرث كونترول» (ضبط الولادات). واعتُقلت في ذلك العام، اثر ارسالها بياناً الى مجلة «وومن ريبل» (تمرد النساء) تناقش فيه وسائل منع الحمل. وأفرج عنها بكفالة. فخالفت قوانين اطلاق السراح المشروط وغادرت الى أوروبا. ثم عادت بعد عامين الى اميركا، وافتتحت أول عيادة «تخطيط عائلي» في بروكلين. فاعتقلت مجدداً، وسجنت 30 يوماً. ولكن السجن لم يثنها عن مواصلة مساعيها. وفي 1917، التقت سانجر كاثارين دكستر ماكورميك في ندوة ببوسطن. وهي ثاني امرأة تتخرج من جامعة «ماساتشوستس انستيتيوت اوف تكنولوجي»، ومناضلة نسائية. وماكورميك من أسرة ميسورة، وتزوجت وريث شركة «هارفستر» الدولية. واكتشفت أن زوجها مصاب بالفصام. فنذرت حياتها، وهي حاملة شهادة في العلوم الإحيائية، للعثور على علاج لمرض زوجها، وبذلت أموالها لتمويل دراسات عن المرض هذا. وإثر صداقتها مع سانجر، قررت مساعدة النساء على تفادي الحمل. ففي حين قادت سانجر حركة ضبط الولادات، وفرت ماكورميك رأسمال الأبحاث الطبية. وفي أثناء الأزمة الكبرى في ثلاثينات القرن الماضي، شهدت حركة ضبط الولادات رواجاً كبيراً. فتقليص حجم الأسرة في الضائقة الاقتصادية تصدر أولويات الأسر. وارتفع عدد عيادات ضبط الولادات من 55 عيادة، في 1930، الى أكثر من 800 عيادة في 1942. وفي المختبرات، تواصلت الدراسات بحثاً عن وسيلة هرمونية لمنع الحمل. وطوال أعوام، حاول العلماء تحقيق فكرتهم عن وسيلة هرمونية. وفي 1951، قابلت سانجر غريغوري بنكوس، وهو صار لاحقاً مبتكر الحبة، في حفل عشاء. واقترحت على ماكورميك تمويل ابحاث العالم الشاب. وفي الثلاثينات، شغل بنكوس منصب مساعد استاذ طبيب في جامعة هارفرد. ونجح في تكوين جنين أرنب في انبوب من أنابيب المختبر. فهو عبّد الطريق امام التخصيب الاصطناعي. واحتفى المجتمع الأكاديمي بهذا الكشف العلمي. ولكن مجلة «كولييرز» نشرت مقالة تتهم فيها بنكوس بإنشاء عالم تنتفي فيه الحاجة الى الرجال. فاستُبعد من هارفرد، وأنشأ مختبر ابحاث خاصاً. وتعاون مع جون روك، وهو طبيب وكاثوليكي متدين. ورمت ابحاث روك الى مساعدة النساء على الإنجاب والشفاء من العقم. وقرر روك اجراء تجربة تحول دون الإباضة طوال أربعة أشهر جراء تناول هرمون البروجسترون. وأمِل بأن تزيد خصوبة النساء بعد انقطاع الإباضة. واحتذى بنكوس وروك على المنطق العلمي هذا لابتكار وسيلة منع حمل. واختبار مثل الوسائل هذه كان محظوراً، في الخمسينات. فقصد روك وبنكوس بورتو ريكو، في 1956، لاختبار نجاعة الحبة الجديدة. ونجحت الحبة في منع الإباضة، وأُقر استخدامها لمعالجة «الاضطرابات النسائية». فقوانين ثلاثين ولاية أميركية كانت تحظر وسائط منع الحمل. ونظرت شركة «سيرل»، وتعود ملكيتها الى عائلة محافظة، بعين القلق الى رد المتدينين الكاثوليك على طرح «الحبة» في الأسواق. وعلى رغم عدم تراجعها عن ادانة وسائل منع الحمل و«التعقيم» ادانة اخلاقية ودينية، ارتضت الكنيسة الكاثوليكية، في الخمسينات، توسل الأزواج باحتساب الدورة الشهرية وأيام «الأمان» قبل الإباضة لتنظيم الإنجاب والتخطيط الأسري. ولا يخفى على أحد أن الواسطة هذه غير دقيقة. وحاول روك تسويغ استخدام الحبة بالقول إنها لا تمنع التقاء عاملي الإخصاب، بل تحاكي الطبيعة وهرموناتها، وتطيل مدة «الأمان» الى الشهر. وذهب الى ان الكنيسة لن تعدل عن تعاليمها التاريخية، إذا اقرت استخدام النساء الحبة. فهي لا تمنع الحمل، بل ترجئه. وفي 1962، عقد مجمع الفاتيكان المسكوني الثاني. وتوقع عدد من القادة ورجال الدين تخفيف القيود عن التنظيم الأسري في سياق تحديث تعاليم الكنيسة. وبعد عامين، عيّن البابا بولس السادس لجنة للبحث في الموضوع. وفي الأثناء، كان نحو نصف الأميركيين الكاثوليك بدأوا استخدام وسائط منع الحمل. وخالف البابا بولس السادس اجماع عدد كبير من الكرادلة على تغيير موقف الكنيسة من وسائل منع الحمل، وانحاز الى رأي أقلية. فبادر رجال الدين الأميركيون أو مئات منهم الى اعلان أن الكنيسة غير معصومة من الخطأ، وأن في وسع الكاثوليك أن يخرجوا على تعاليمها. وفي الأحوال كلها، لم يعد الرجوع عن شيوع استخدام وسائل منع الحمل ممكناً. ففي 1970، كان ثلثا النساء الكاثوليكيات الأميركيات يتوسل وسائل منع الحمل. وفي الحرب الباردة، رأى بعضهم أن «الحبة» هي سلاح جديد يكبح النمو السكاني المتعاظم، ويقلص مخاطر اندلاع الحروب والمجاعات، والاضطرابات السياسية، وينقذ الدول الصغيرة من الوقوع في براثن الشيوعية. ورأى بعض آخر أن الحبة قد تقلص معدلات الإجهاض المرتفعة. فعلى سبيل المثال، ضاهت معدلات الإجهاض معدلات الولادات في المانياالشرقية. ووُصف الإجهاض ب «الوباء الأفظع في العصر الحديث». * صحافية، عن «تايم» البريطانية، 22/4/2010، اعداد منال نحاس