تزخر مكتبة الفنان اللبناني نعيم فرحات المقيم في أميركا بمجموعة هائلة من الصور الفوتوغرافية التي رسمها مستشرقون زاروا تونس أو أقاموا فيها وخرجوا منها بأعمال فنيّة غاية في الروعة والإبداع. وتمثّل اليوم هذه الصور كنزاً فنيّاً ووثيقة تاريخية مهمة للباحثين، وللتعمّق في مراحل معيّنة من تاريخ تونس انطلاقاً من نظرة أولئك المستشرقين الذين قدموا رؤيتهم الخاصة لتلك المراحل التاريخية التي تميّزت بالتعايش السلمي والتضامن والتكافل بين كل الديانات وكل الأجناس التي مرّت على تونس. وعرضت هذه الصور في عدد من المناسبات في أميركا وأوروبا ولبنان وسورية والأردن، وقد التقطها مستشرقون أجانب قدموا من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وهي تعود إلى عام 1850، يصل عددها إلى 150 صورة اقتناها الفنان الأميركي اللبناني الأصل نعيم فرحات، صاحب «مجموعات فرحات للأعمال الفنية الإنسانية»، ليضمّها إلى مجموعة الأعمال الفنية والصور الفوتوغرافية للمستشرقين التي تحوي صوراً لبلدان المغرب العربي تصل إلى 2200 صورة، وصوراً عن المشرق العربي، مصر وبلاد الشام منها تقريباً 200 صورة فوتوغرافية عن فلسطين. وتقدم كل صورة من هذه الصور فكرة عن الماضي وتسرد أحداثاً ووقائع وأسلوب عيش وتفاصيل حياتية يومية قد تبدو بسيطة لكنها عميقة وموغلة في التاريخ والعادات المتنوعة والهوية الراسخة لتونس. وحتى لو كان مقصد المستشرقين من خلال تصويرها إبراز مجتمع مختلف فإن هذه الصور نجحت في إبراز مشاهد مميزة للحياة اليومية والنماذج البشرية المتنوعة، وكانت المرأة موضع اهتمام وكذلك المعمار والتمازج الطبيعي والبشري الذي يمنح الصور قيمة فنية ذات أبعاد جمالية تاريخية تستوقف المشاهد وتبعث فيه اهتماماً مختلفاً وتخلق فيه حنيناً للماضي ورغبة في مزيد من التعمّق والبحث في منازلها. وعلى رغم الهدف الرئيس والمعروف لدى غالبية المستشرقين وهو تبيان الصورة النمطية المتخلّفة لتلك الشعوب، إلا أن ظهور هذه الصور في أيامنا المعاصرة يعدّ إرثاً تاريخياً وفنياً وشكلاً من أشكال التثاقف، إذ جمع الغرب الباحث دوماً عن أسرار الشرق لفك طلاسمها والشرق الذي حمل كل التنوع الحضاري والديني والبشري. فصور المستشرقين الفوتوغرافية كانت إثباتا لمدى تشبث سكان هذه المنطقة بالحياة والعادات والاستمرار والتعايش المنسجم بين مختلف النماذج. لقد انبهر هؤلاء المستشرقون بالمعمار الذي بدا في المنازل الفاخرة والزخرف الإسلامي الأندلسي والعثماني وفي الشكل العام للمدن العتيقة بطرقاتها الضيقة وأسوارها وأبوابها الكبيرة التي يميزها اللون والتزويق الذي يمزج الخشب بأشكاله الهندسية الضخمة والفخمة والمسامير الكبيرة السوداء التي تزين الأبواب، فضلاً عن تصوير الآثار والمعالم الدينية المتنوعة مثل المساجد والكنائس. كما صوّر المستشرقون العادات والتقاليد التي تختلف من منطقة إلى أخرى عبر البلاد التونسية، وركّز بعضهم على هذه الاختلافات انطلاقاً من الطبيعة البشرية التي تميّز ساكني كل منطقة وكذلك بحسب الديانة التي يعتنقونها مسلمين كانوا أو مسيحيين أو يهوداً. كما ركز البعض الآخر على تصوير الأسواق والمتاجر والمناسبات الخاصة كالأعياد، واحتفالات الزواج والختان إضافة إلى تصوير المقاهي التي تمثّل شكلاً آخر من أشكال الحياة اليومية التي يحبّذها المستشرقون في إنجاز أعمالهم. وكانت المرأة عنصراً مهماً في أعمالهم حيث يبرز الاهتمام الكبير بتصوير المرأة، واختلفت صورتها بين البدوية والمدنية، كما كان للمرأة اليهودية حضور لافت في عدد اللوحات، حيث وجد المستشرقون فيها عالماً بأكمله من خلال أزياء غير مألوفة لديهم.