عندما صدح صوت الفنان لطفي بوشناق، في حفلة عامة قبل أيام، بهذه الكلمات «خذوا المناصب والمكاسب، بس خللو لي الوطن»، ارتفعت غابة من الأيادي وانطلقت الآلاف من الحناجر تُردد معه كلمات الأغنية التي باتت، ربما، الأشهر في ألبومه. دلالةُ هذا التناغم أن التونسيين ضجروا من أصحاب المناصب والمكاسب الذين تداولوا على الكراسي، وظلوا عن وعودهم ساهين. سبع حكومات في خمس سنوات لم تستطع أن تُحرك قطار التنمية المُتعثر منذ الاستقلال في المحافظات الداخلية. فالوعود التي أطلقت في ثلاث حملات انتخابية بعد الثورة سرعان ما تبخرت، وعاد مئات الآلاف من الشباب العاطلين من العمل يطحنون الزمن الثقيل في مقاهي الأحياء الفقيرة، في انتظار جَمعِ المبلغ اللازم لامتطاء مركب متهالك إلى السواحل الإيطالية. تُشير خريطة تونس إلى أن الإستثمارات والتجمعات الحضرية الرئيسة تتركز في السواحل بنسبة تُقارب 80 في المئة، فيما تُعاني المحافظات الداخلية من النسيان الذي حاولت الاحتجاجات الأخيرة في محافظة القصرين تمزيقه بوسائل سلمية، فأتت صدًى لحركة طارق (محمد) بوعزيزي في محافظة سيدي بوزيد المُجاورة أواخر العام 2010. ومن المفارقات أن «الولايات المحرومة»، مثلما تُدعى في تونس، تقع في جوار بلدين غنيين بالموارد الطبيعية ما يُتيح، نظرياً، إنشاء مشاريع تنموية كبيرة على طرفي الحدود. غير أن الخلافات الإقليمية والموت السريري للاتحاد المغاربي عطلا المشاريع القليلة التي أنشئت في المدن الحدودية. وازدهرت في المقابل شبكات التهريب التي أنهكت اقتصادات البلدان الثلاثة وأربكت الأجهزة الأمنية، بل نجحت في اختراق بعضها. وعلى رغم عودة الهدوء إلى المحافظات التي انتفضت في الذكرى الخامسة للثورة، ما زال ملف التشغيل، واستطراداً ضعف الاستثمار في مشاريع التنمية في المحافظات الداخلية، يُشكلان صاعقاً من أهم الصواعق التي يمكن أن تُفجر الوضع الاجتماعي في أي وقت. والظاهر أن رسالة الثورة التي حملها الشبان الغاضبون في الشوارع في 2011 لم تُقرأ قراءة صحيحة من الحكومات اللاحقة، التي انغمست في المهاترات السياسية، وجعلت من المُحاصصة الحزبية العنوان الكبير لإدارة دفة الدولة. ماذا حصد الشبان والشابات الذين خرجوا الى الشوارع طلباً للتوظيف والكرامة بعد خمس سنوات من ثورتهم التي نال سواهم من أجلها جائزة نوبل؟ لم يقبضوا سوى «حصاد الهشيم» وفق عبارة الأديب المصري الساخر ابراهيم عبدالقادر المازني، فعدد العاطلين اليوم ارتفع إلى 700 ألف عاطل (من أصل 11 مليون ساكن) وفق الحكومة ومليون عاطل طبقاً لتقديرات خبراء اقتصاديين. وتُعزى هذه الظاهرة إلى أزمة المنظومة التعليمية التي ظلت على مدى عقدين تمنحُ الخريجين شهادات لا تستجيب لحاجات سوق العمل، ما أدى إلى انهيار القيمة الاجتماعية والمهنية للشهادات الجامعية وزرع الإحباط والغضب في صفوف شباب مُتعلم، لكن ليس له موطئ قدم في سوق الوظائف. وجعلت تلك الخيبات من بعض الشباب القانطين لقمة سائغة للتنظيمات الإرهابية أسوة ب «أنصار الشريعة» و «داعش» و «كتيبة عُقبة بن نافع». بهذا المعنى يمكن القولُ إن المُحاصصة السياسية لم تترك حصة للشباب العاطل من العمل، مع أن التحدي الأول الذي فرضته الثورة هو التشغيل والنهوض بالمناطق المُهمشة. وظلت البرامج التي طرحتها الأحزاب في الانتخابات البرلمانية والرئاسية حبراً على ورق، إذ لا تملك الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم مشروعاً وطنياً للإنقاذ وإعادة البناء، وبات كل وزير يُنفذ خيارات حزبه في القطاع الخاص به، مثلما اعترف بذلك أكثر من عضو في الحكومة. واعتمد التشكيل الوزاري على الترضيات الحزبية والشخصية أحياناً، من دون التفكير في مُجابهة الاختلالات البنيوية بتحسين مناخ الاستثمار وإنعاش الموازنة والتخفيف من وطأة المديونية وتعزيز الاقتصاد المُنتج ورد الاعتبار للتعليم. وإذا كان صحيحاً أن ثمار الثورات لا تينع إلا بعد حين، فإن المراقبين لا يلمحون بصيص مؤشرات إيجابية في الأمد المنظور، بل يجوز القلق من تزايد الأضواء الحمراء في المشهد الاقتصادي، إذ صعدت تونس إلى مقدم الترتيب بين الدول الأكثر فساداً، وتفاقمت نسبة العجز في الموازنة وارتفع حجم المديونية وتمدّدت البطالة، فضلاً عن تراجع الايرادات من الضرائب (التي تشكل 62 في المئة من موارد الدولة)، في مقابل ارتفاع أعباء صندوق دعم الأسعار، التي تجاوزت عتبة 2200 مليون دولار، ناهيك عن التآكل المُتسارع للفئات الوسطى. أكثر من ذلك، اضطر المصرف المركزي بسبب شح السيولة، إلى ضخ أكثر من 2500 مليون دولار في شرايين المصارف، بسبب عجزها عن الالتجاء إلى الاقتراض من السوق الأجنبية، بعد تدهور ترقيم تونس السيادي. كما أن صندوق النقد الدولي قدّر في ضوء دراسته لأوضاع المصارف المحلية بعد الثورة، أن الجهاز المصرفي سيحتاج إلى ضخ أموال إضافية تُعادل 2.1 بليون دولار، أي 5 في المئة من الناتج الوطني الخام. اتجهت أنظار الحكومات المتعاقبة إلى الاتحاد الأوروبي، وبالدرجة الأولى الى فرنسا، باعتبارهما يملكان مفتاح المساعدة في التخفيف من الأعباء الاقتصادية، بالاضافة الى البنك وصندوق النقد الدوليين اللذين يمارسان ضغوطاً كبيرة على تونس لتنفيذ إصلاحات لا يبدو بعضُها ضرورياً. لكن لا توجد رؤية لإمكانات الاستفادة من الاستثمارات العربية والآسيوية، فالصعوبات التي يمرُ فيها الأوروبيون تدفع إلى التفتيش عن أسواق جديدة واستقطاب استثمارات من المجال العربي، الذي ظلت الثقافة السياسية السائدة تتعاطى معه من منطلق الريبة والتحفظ، من دون أن يعني ذلك التهوين من دور أوروبا بوصفها الشريك الرئيس لتونس واقعياً. ومن الضروري العودة إلى مناقشة هذه الخيارات الاستراتيجية لأن التحديات الاقتصادية والاجتماعية تشكل خطراً على مسار الانتقال الديموقراطي بسبب احتمال تجدد الاضطرابات، وهي أيضاً أحد العناصر الحاسمة في اقتلاع جذور الإرهاب. وهذا يستدعي أن تتواطأ النُخب على مشروع عابر للجماعات السياسية يرمي الى تحقيق الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي، الذي من دونه لن يتخطى الانتقال الديموقراطي اليافع مرحلة الخطر. * كاتب واعلامي تونسي