هل تخيل الناقد البحريني محمد البنكي، وهو يرثو جاك دريدا، المفكر والفيلسوف الذي شغله كثيراً وأصدر عنه كتاباً، أن المرض الخبيث الذي أجهز على صاحب «في علم الكتابة» بعد معركة طويلة، هو المرض عينه الذي سيحل به، وينتزع منه روحه ويقصف أحلامه، ويترك مشاريعه بلا اكتمال. في رثائه دريدا، كتب البنكي عن اشتغال السرطان في جسد الفيلسوف «بطريقة تستلهم اشتغال الاستراتيجيات التفكيكية في النصوص». رحل البنكي ولم يكمل بعد عقده الخامس (47 سنةً فقط)، رحل في عمر يمثل نقطة البداية لعدد من الكتاب والأدباء، أضحوا علامة مهمة في خريطة الأدب في العالم. لم يمهله المرض طويلاً، ليعيش سنوات أخرى، ويحقق فيها ما خطط له، وفكر، من مشاريع نقدية وسواها. فالناقد البحريني لم يترك وراءه كتباً عدة، كتاباً واحداً فقط ودراسات معمقة ورصينة مبثوثة في كتب مشتركة. ولئن لم يصدر أكثر من كتاب، فإنه من جهة أخرى، استطاع على نحو فريد أن يصوغ صورة واضحة ودقيقة عن مشاغله ورؤاه وكيفية اشتغاله على مواضيعه، من خلال دراساته ومقالاته العميقة، التي تنم عن طرائق فيها من الابتكار والجدية، ما يجعله من أبرز المشتغلين على نقد ما بعد الحداثة ومناهجه. منذ اللحظة الأولى انحاز البنكي إلى أدب الشباب، وكتب عنهم. كتب كمبدع قبل أن يكتب كناقد. ولم يفعل من منطلق المجامل والمشجع، إنما المؤمن بكتابة هؤلاء وبأن كتابتهم ستبقى. كتب عن أدب الشباب، وفي الوقت نفسه كان يكتب عن نفسه، وبقدر ما يضيء هواجس هذه الكتابة وتطلعاتها، كان يتيح للقارئ فرصة التعرف إلى منهجه في النقد، وطريقته في التقصي والتأمل. لم يكن البنكي شاباً، في ما تعنيه هذه المفردة من معنى مباشر، إنما كان كبيراً وعميقاً ورصيناً، احتشد بالأفكار والنظريات والدروس النقدية الحديثة. كان يشبه آلة تنتج باستمرار أفكاراً جديدة، وكانت قدرته لافتة في الحوار مع النصوص وكتابات الشبان، حتى أضحى واحداً من أهم نقاد التسعينات. اهتم البنكي برواية التسعينات في الخليج والعالم العربي، وأظهر شكوكه في جدوى الكلام عن قطيعة كاملة تمارسها هذه الرواية مع ما سبقها. ووصف التصنيفات الشائعة، مثل كتابة الجسد أو أدب المرأة أو كتابة الاختلاف، بالسخيفة. وطالما طرح أسئلة عدة عن الأدب التسعيني: هل هناك أدب تسعيني؟ ما هي مقوماته وخصوصياته؟ هل أحدث هذا الأدب (إذا وجد) فعلاً قطيعة؟ هل نسمي أدب التسعينات ما يكتبه فقط الكتاب الشباب، أم إن الكبار الذين طوروا أساليبهم تسعينيون أيضاً؟ وهكذا ردّ الاستسهال في إطلاق المقولات التفسيرية لهذا الأدب، بخاصة في المشهد الروائي المصري، إلى «عماية الكلاشيهات التي يدفع بها النقد الإعلامي السريع والندوات الاحتفائية الاستهلاكية». لم يغب عن بال الراحل، وهو يخوض معركته الخاصة مع قاتله، الأسماء التي حاولت جاهدة افتراس المرض بالكتابة، بحسب تعبيره، مثل إدوارد سعيد، دريدا، عبدالوهاب المسيري، محمد شكري، سعد الله ونوس، علام القائد، نعمات البحيري وهاني الراهب وسواهم. وبقي يتذكرها كمن يهيئ نفسه لنزال غامض وشرس لا يعرف أحد نهايته، محاولاً أن يكون واحداً من أولئك الذي تحلوا بشجاعة لا مثيل لها في مواجهة المرض الخبيث، حتى وإن انتصر عليهم في خاتمة المطاف. يصف البنكي، في كتابة مؤثرة، الأثر الذي تركه فيه خبر إصابته بمرض السرطان، قبل نحو أربع سنوات: لم تغادر أحداقه (يقصد الطبيب) أحداقي وهو يستعد لإطلاق الخبر بلحظة صمت طويلة (...) عينا الدكتور بتيل في عينيّ، وفي كل ما حول هذه النظرات باهت ويغور في الهشاشة. قررت لحظتها، بارتجال خاطف، أن لا أفرغ نظراتي من صلابتها وإيمانها واعتدادها بنفسها...». لم يقصر الراحل جهده على النقد الأدبي أو نقد النقد، إنما تخطاه إلى معالجة ظواهر وقضايا يعج به المجتمع البحريني. فكتب عن النسق الثقافي والمرجعية الدينية في البحرين، عن المرأة ورجال الدين، وتطرق إلى الطائفية والوطنية، الولاء والانتماء، كتب بجرأة وشجاعة، فكان مثار خلاف ونقاش بين الشرائح المختلفة. تقصى في كتابه الوحيد «دريدا عربياً» ( 2005 - المؤسسة العربية للدراسات - بيروت) القراءات العربية لدريدا، الذي شكل سلطة مرجعية في الإنتاج النقدي والفكري العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، «طامحاً إلى استقطاب إشكالات القراءة العربية للإسهام الدريدي، ووضعها ضمن اطر واضحة، تمكن من استخلاص حصيلة قادرة على إعطاء صورة شاملة لطبيعة مسار هذه القراءات وآفاق تطورها المحتملة». وتوقف، وقفات مطولة ومتأنية، عند مصطفى ناصف، عبدالعزيز حمودة، عبدالسلام بنعبد العالي، عبدالوهاب المسيري، كمال أبو ديب، بختي بن عودة وعلي حرب. شغله الفيلسوف الذي اشتهر بصعوبة مفاهيمه، والتي أخضع من خلالها الكثير من مسلمات الفكر الغربي للمساءلة، وتقويض مزاعمها في الهيمنة، حتى أصبح أحد وجوهه الأكثر جدية. في لحظة وجد نفسه تتنازعه إلى ميادين أخرى، غير بعيدة من همومه الرئيسة، لكنها تشكل منعطفاً آخر، جديداً وحيوياً، في تجربته العملية والحيايتة، فساهم في تأسيس مجلة «أوان» (عام 2002 جامعة البحرين) وترأس تحريرها وهي مطبوعة شاء لها أن تعنى بمراجعة الكتب وتكون «مفتوحة أمام الاختلاف والانفتاح على العالم ثقافة وفكراً وعلوماً». ثم انتقل في 2005 إلى مشروع أكبر ويخاطب شريحة أوسع، ولا يخلو من إشكالات ومتاعب، ويتطلب متابعة يومية دقيقة، أعني تأسيس صحيفة «الوطن» التي ظهرت، لتعبر مع صحف أخرى، عن منعطف جديد يعيشه المشهد البحريني على الصعد كافة. وفي عام 2008 ترك الصحيفة، ليعمل مستشاراً لوزيرة الثقافة والإعلام مي آل خليفة، ولاحقاً تم تعيينه وكيلاً لوزارة الثقافة والإعلام، وبقي في هذا المنصب حتى وفاته. شهادات ترك رحيل البنكي بالتأكيد حسرة كبيرة وشعور بالفقدان، عند من عرفوه عن قرب. من هؤلاء الناقد عبدالله الغذامي، الذي تحدث بتأثر كبير، عن الراحل، وكان للتو (الأربعاء ليلاً) قدم من الإمارات حيث تناهي اليه خبر. الغذامي، الذي ربطته علاقة وطيدة ثقافياً وإنسانياً بالبنكي، كان بالكاد يستطيع الكلام من الصدمة. يقول صاحب «النقد الثقافي» إن «رحيل محمد البنكي خسارة كبيرة على المستوى الشخصي، كأنني خسرت أكبر أحلامي. كان محمد بالنسبة لي حلم المستقبل، تكلمت كثيراً في مناسبات كثيرة، عن مستقبل النقد العربي والثقافي تحديداً وقلت إنه يكمن في البحرين. كان محمد هو الصورة الأساسية في كل هذا المتخيل الكبير. تابع النظريات الحديثة بأدق ما فيها، في فرنسا وبريطانيا وأميركا، وفي العالم العربي. هذا الرجل كانت تجمعني به ساعات طويلة، مليئة بالأسئلة والملاحظات العميقة. يبدو أن محمد أكبر بكثير من أن تستوعبه دنيانا. راح إلى ما هو أعلى وأرقى». ويلفت الغذامي إلى أن البنكي كان «يتعب، تعباً شديداً، على نفسه، يحملها أقصى درجات، ما يمكن بشراً أن يحتمله في سبيل أن يعطي العلم والمعرفة حقوقهما». ويشير إلى أنه «يمثل ندرة في العمق، وفي أخلاقيات المعرفة والتعامل». الشاعر الكويتي محمد النبهان يصف الراحل ب «المحرك الحقيقي للثقافة في البحرين» والمتابع «للحركة الثقافية في الخليج والعالم العربي»، إذاً، هو من هؤلاء القلة الذين يبدأون ويستمتعون بالمسافة أياً كانت الطرق فيتركون بصمتهم الخاصة». وما يعد إضافة للبنكي، بحسب النبهان، «اهتمامه بالأصوات الجديدة، في الوقت الذي يهرب فيه النقاد إلى السهل والمريح والمضمون. من ذلك تلك القراءة التي قدمها في الكويت عن شعراء الجيل الجديد الكويتيين، في الوقت الذي كان ينتظر منه الجمهور قراءة لأجيال سابقة كما تعودوا من «نقاد العناوين». وربما كانت تلك أول قراءة نقدية في الشعر الجديد تأتي من خارج الكويت». ويقول صاحب «غربة أخرى» إن للناقد الراحل مفرداته وابتكاراته، «وله شجاعته في اقتراح الجديد دائماً، لذا، نفتقد طاقة قوية كالبنكي في مؤسساتنا الثقافية التي لا نعرف هل من المفيد احتماؤها بالمثقف الحقيقي فيكرس طاقته لها، أم تركها إياه يعمل بسلام بعيداً من أسوارها، ويمارس حياته بسلام، ويموت بسلام؟... وهكذا إذاً، ترجل محمد البنكي سريعاً من قطار الحياة متشبثاً بالمستقبل». الروائي البحريني فريد رمضان كتب مقالاً صغيراً في رثاء البنكي، عنوانه «نديم الحب»، يقول فيه: «يتعقبني اسمك، أرى صورتك في مرآة قلبي، وكلما طاف بي ألم شهقت بألمك. هذه الأرض جفاف، ونحن طيف عابر. أنت سيرة تبدأ ولا تنتهي مثل زهور الله. فلماذا ترحل عنا سريعاً ونحن ما زلنا أمام محطة القطار، كما كنت تردد لي دائماً، علينا أن «نتشعبط بقطارات المستقبل». ألم تحدثني قبل أيام عن ألمي فقلت لك «عمر الشقي بقي». جاهرنا بأحلامنا، اخترنا طرقاً، ربما هي الظلال والكتابة، بين قصيدة الشعر، وشعر الحياة، وحلقات النقاش في منزل والدك، وذهابك الجريء نحو «دريدا» لتصنع منه هوية عربية، وغراماً نقدياً». ويمضي صاحب «برزخ» مخاطباً الراحل: ترى، ثم تذهب بعيداً مع صاحبك «دريدا» مرة أخرى ولكن ضمن «أثر رجئي». نترك أمراضنا، لون قمصاننا، رائحة المستشفى التي ترافقنا. ندغدغ الحياة بما تبقى من أيام نعرفها، وأخرى نجهل ما سوف تأتي به إلينا. ولكننا بالتأكيد سنجاهر للشواطئ عن نديم المحبة التي هي أنت. أنت يا محمد».