يحدث شيء محرج جداً للقيادات العربية وهي تهرول اليوم سعياً وراء استراتيجية تنتشلها من الحصار الذي تفرضه عليها الدول النووية الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن من جهة، وكل من إيران وإسرائيل من جهة أخرى. تهرول عشية افتتاح مؤتمر مراجعة معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية على مستوى السفراء والخبراء في الأممالمتحدة فيما كان يجب على القيادات العربية أن توفد الى المؤتمر وزراء خارجية ووزراء دفاع أيضاً نظراً لأبعاد ولإفرازات المؤتمر على المنطقة العربية. معظم دول العالم سيتواجد في نيويورك على الصعيد الحكومي وصعيد المنظمات غير الحكومية وصعيد الخبراء في المؤسسات الفكرية ضمن استراتيجيات مدروسة منذ فترة طويلة. أما العرب، فإنهم سيكونون قلة، عدداً وتأثيراً، عمداً وسهواً، لأن الهروب الى الأمام في الفكر العربي يشكل استراتيجية، ولأن التفكير خارج الصندوق الحكومي التقليدي يُعتَبر غير ضروري. شهر أيار (مايو) سيتخلله حشد من النشاطات المعنية بالموضوع النووي وبأسلحة الدمار الشامل على هامش مؤتمر مراجعة معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية (NPT) في الأممالمتحدة في نيويورك والذي يبدأ يوم الاثنين. سيقتحمه، على الأرجح، الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لتحويله الى تظاهرة ضد إسرائيل وسلاحها النووي وللتملص من الاستحقاقات التي يطالب مجلس الأمن والدول الخمس إيران بها. ستحاول إسرائيل أن تلعب دور الساحر المختفي في المؤتمر، أولاً لأنها لا تقر بامتلاكها ترسانة نووية محظورة، وثانياً لأن دولاً مثل روسيا وأميركا وأوروبا تقوم بحمايتها من المحاسبة نيابة عنها ومكافأة لها على "قبولها" بعدم المغامرة بضربة عسكرية ضد إيران ومنشآتها النووية. أما الدول العربية فإنها ستكون محاصرة تماماً بين المغالاة الإسرائيلية والمزايدة الإيرانية والمفاجأة الروسية كتلك التي أتت بها موسكو عندما بادرت الى تقديم موقف أميركي - روسي مشترك يميّع – بل يدفن – القرار الذي تم تبنيه بالإجماع عام 1995 ونص على إعلان منطقة الشرق الأوسط خالية من الأسلحة النووية. حينذاك، كان ذلك القرار عبارة عن مقايضة مشؤومة وجاء تعويضاً لرضوخ العرب وبالذات للتمديد المفتوح الأفق بلا حدود زمنية لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية والتراجع عن إصرارهم على أن تدخل إسرائيل طرفاً في المعاهدة كشرط مسبق للتمديد. فقرار عام 1995 كان يُفترض به أن يسمح بإثارة موضوع امتلاك إسرائيل وحدها في المنطقة السلاح النووي مع معالجة كل أسلحة الدمار الشامل بتحويل الشرق الأوسط الى منطقة خالية من ذلك السلاح. اليوم لم يعد ممكناً دفن الرؤوس جماعة في الرمال امام الشأن النووي الإسرائيلي، لا سيما أن مجلس الأمن يستعد لاتخاذ إجراءات عقوبات إضافية ضد إيران بسبب الشكوك حول اعتزامها امتلاك قدرات نووية عسكرية. فالتداخل بين ملفي إسرائيل وإيران النوويين آت الى نيويورك الأسبوع المقبل في عملية لن تقتصر على زج القيادات العربية في زاوية الإحراج. إنه تداخل في أذهان الشعوب العادية وكذلك في حسابات المجموعات والمنظمات المتطرفة التي صنّفها مؤتمر واشنطن قبل أسبوعين الأكثر خطورة على البشرية إذا فشل نظام منع انتشار الأسلحة النووية. لذلك ان الحكمة حاجة وضرورة. فمن الخطورة الكبرى على الجميع – لربما باستثناء إيران – أن تبدو القيادات العربية أدوات انصياع لإملاء الأميركيين والأوروبيين والإسرائيليين وحتى الروس، لأن انطباع الانصياع للإملاءات سيؤجج المشاعر ضد جميع الذين ينفذون استراتيجية إعفاء إسرائيل من المحاسبة. والأسوأ أن مثل هذا الإعفاء سيقع ذخيرة بين أيدي المنظمات والمجموعات التي لا يريد الرئيس الأميركي باراك أوباما لها أن تحصل على الأسلحة المحظورة. وبالتالي، إن الدول النووية الخمس الكبرى مطالبة بالتفكير بعمق بدلاً من تحميل القيادات العربية عبء إعفاء إسرائيل وإلا فإنها تُحمَّل مسؤولية إفشال المؤتمر. والقيادات العربية مُطالبة من جهتها أن تكف عن دفن الرؤوس في الرمال وأن تشارك على أعلى المستويات في مشروع التفكير بالتكتيك والاستراتيجية – وأن تُشرك في الورشة الخبراء العرب في الميادين النووية والإعلامية والفكرية – كي لا تقع فريسة المغالاة والمزايدة والمفاجأة والمقايضة على حسابها، وكي لا تظل تعمل في حراك لغوي بفن المبالغة الخطابية الرنانة حتى الزوال. لا يكفي أي قدر من الانتقاد والعتب على التبعثر العربي عشية عقد مؤتمر مراجعة المعاهدة لأن كل الدول الأخرى أعدت جيداً ومنذ شهور وسنوات لهذا المؤتمر لينجز لها أولوياتها. العرب يعرفون أن هذا المؤتمر سيتحول الى مؤتمر إسرائيل وإيران. وعلى رغم ذلك، ليست هناك أوراق مشتركة ولا استراتيجيات مدروسة ولا سيناريوات اما للتصدي لما هو متوقع بعامة أو للمفاجآت. روسيا تصدرت صفحة المفاجأة عندما صدمت العرب بورقة مقترحات أميركية – روسية بادر نائب وزير خارجية روسيا أناتولي انتونوت الى تقديمها للأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى الأسبوع الماضي في القاهرة. خلاصة تلك المقترحات هي "الإقرار بأهمية إنشاء شرق أوسط خال من كل أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة النووية" كما نص عليه قرار عام 1995، إنما "مع التشديد" على ضرورة أن يتم أولاً "تحقيق" التالي: "(أ) سلام شامل في الشرق الأوسط، و (ب) التزام كامل دول المنطقة بتنفيذ الاتفاقيات المعنية بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية، و (ج) بدء تنفيذ معاهدة حظر التجارب النووية، و (د) الالتزام الطوعي لكل دول المنطقة بعدم تطوير قدرات تخصيب اليورانيوم ك "إجراء بناء الثقة" على طريق تنفيذ قرار 1995. هذا الى جانب مطالب أخرى على نسق إخضاع المنشآت النووية لتفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي يُلزم فقط الدول الموقعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية – وإسرائيل مستثناة من ذلك لأنها ليست طرفاً في تلك المعاهدة - كل هذا في مقابل الموافقة على مؤتمر تحت إشراف الوكالة الدولية لمجرد بحث الخطوات المطلوب اتخاذها من أجل "البدء" في تنفيذ قرار 1995، أي ان روسياوالولاياتالمتحدة، تدعمهما الدول الأوروبية النووية – بريطانيا وفرنسا – أقحمتا على قرار العام 1995 – المتعلق بإسرائيل أساساً – ملف إيران النووي في ربط جديد بين الملفين. بمعنى أن هذه الدول ربطت تنفيذ ذلك القرار للعام 1995 – الذي كان "مكافأة" للعرب على تراجعهم عن الإصرار على انتماء إسرائيل الى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية كشرط للتمديد للمعاهدة – ربطته مع ملف إيران النووي المطروح ضمن معادلة المقايضة والترغيب أو العقوبات بقرار لمجلس الأمن الدولي. عمرو موسى كان عام 1995 وزير خارجية مصر وقاد حينذاك المطالبة بانضمام اسرائيل الى المعاهدة كما قاد التراجع عن ذلك الإصرار في أعقاب ضغوط ضخمة على القيادات العليا في القاهرة كما على الوفود في نيويورك. هذه المرة، عندما تلقت الجامعة العربية الورقة الروسية – الأميركية، اكتفت بإحالتها الى الوفود في نيويورك بدلاً من الدعوة الى تحرك سريع على أعلى المستويات لصياغة سيناريوات استراتيجيات تدعم مفاوضات الوفود في نيويورك. كان الأجدر بجامعة الدول العربية أن تدعو الوزراء الى ورشة تفكير جماعي وتحضهم على التوجه الى نيويورك بأفواج ليتواجدوا في المؤتمر باستمرار على مستوى الوزراء كي لا تخلو الساحة من مساهمة جدية للعرب في هذه المداولات. "إيداع" نسخة من ورقة المقترحات لدى الوفود العربية في الأممالمتحدة يعكس لا جدية خطيرة في التناول العربي لهذه المسألة المهمة. حتى وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط، سيغيب عن المؤتمر على رغم أن سفيرها ماجد عبدالعزيز الذي يترأس مجموعة عدم الانحياز يسوّق في كل محفل طلب مصر موافقة مؤتمر مراجعة المعاهدة في نيويورك على مؤتمر إقليمي ل "بدء المفاوضات" حول إنشاء المنطقة الخالية من الأسلحة النووية في القاهرة وذلك بحضور إيران وإسرائيل والدول العربية سوية مع الدول النووية الأساسية أي الولاياتالمتحدة وبريطانيا وروسيا. هذه الدول الثلاث تعبر عن استعدادها للقبول بفكرة المؤتمر إنما شرط أن يكون من دون آلية للتفاوض وكذلك من دون حدود زمنية تُفرض على إسرائيل للتعامل مع هدف المؤتمر. إسرائيل تتملص من كل شيء وتكتفي بالمطالبة بما تسميه "إجراءات بناء ثقة". أما إيران فإنها لا تريد المؤتمر الذي تدعو إليه مصر بحجة رفض الجلوس مع إسرائيل وهي تعارضه أيضاً لأنها تجد في مؤتمر نيويورك ساحة ثرية لها تشن فيها أكثر من حملة وتصطاد أكثر من عصفور بحجر. فهي تراهن على خضوع العرب للمطالب الأميركية، لا سيما أنها الآن مدعومة روسياً. وهي تجد في المؤتمر فرصة ذهبية لتحويل الأنظار من ملف إيران النووي الى إسرائيل النووية. إدارة باراك أوباما تعي كل ذلك وتوفد الى المؤتمر وفداً كبيراً تترأسه في البدء وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون وقد يفاجئه لاحقاً اما الرئيس باراك أوباما أو نائبه جو بايدن. فهذه الإدارة وضعت الأمن النووي في صدارة اهتماماتها الدولية وهي حريصة شديد الحرص على إنجاح مؤتمر مراجعة معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في نيويورك في أعقاب مؤتمر الأمن النووي في واشنطن. ما ستقوم به إدارة أوباما في شهر أيار (مايو) في نيويورك، وفي العواصم، هو التحرك على سكتين متوازيتين: حشد الدعم لقرار تعزيز العقوبات على إيران في مجلس الأمن ما لم تنجح ضغوط العقوبات في إقناع طهران بالموافقة على التفاوض وتنفيذ القرارات الدولية... ومنع مؤتمر مراجعة المعاهدة من أن يتقلص الى مؤتمر ضد إسرائيل. ماذا في وسع العرب أن يفعلوا وهم يواجهون، اما (أ) القضاء على القرار (المكافأة) لعام 1995 إذا وافقوا على "المقترحات" الأميركية – الروسية أو (ب) إبداء المرونة والعمل نحو تعديلات إنقاذ ماء الوجه تجاوباً مع الضغوط الدولية ومع حاجة أوباما لإنجاح هذا المؤتمر – وهو الرجل الذي يعمل ويبذل جهداً من أجل سلام عربي – إسرائيلي. ربما هناك أفكار ومقترحات "خلاّقة" يجدر بالعرب إما التفكير بها، أو الطلب من الديبلوماسية الروسية – الأميركية – الأوروبية أن تفكر هي بها، أو الأمران معاً. وهذا يتطلب مشاركة عربية فعّالة بدلاً من الاختباء وراء الإصبع والهروب الى الأمام تجنباً للمواجهة وللاستحقاقات. فليتفضل الوزراء العرب الى نيويورك ليكون هناك تواجد عربي دائم على أعلى المستويات، ولتبادر جامعة الدول العربية – وإن متأخرة جداً – الى إشراك الخبراء عبر ندوات عاجلة وورشات عمل والتقدم بأفكار خلاقة.