تنفرد التجربة السياسية والحزبية في السودان بسمات خاصة بالغة الصعوبة والتعقيد، تميزها عن الفضاءين العربي والأفريقي، حتى أنها تكاد تكون طبعة أفروعربية فريدة، فالبلد الذي ينتظر ربما وليداً جديداً في كانون الثاني (يناير) المقبل، مع إجراء الاستفتاء على حق الجنوب في الاستقلال، يعاني من معضلة دارفور وعشرات المشاكل السياسية والاجتماعية والإثنية والجهوية. بهذا التعقيد خاض السودان انتخابات شاملة تعتبر نهاية حرب أهلية بين الشمال والجنوب، وتأكيداً لشرعية الرئيس عمر البشير الذي تلاحقه المحكمة الجنائية الدولية. كل هذه الافتراضات والمصاعب ضاعفت من أهمية الانتخابات وحيويتها، ومع ذلك، وكما عودتنا الحياة السياسية والحزبية في السودان، سبقت الانتخابات وسادتها انقسامات سياسية وأيديولوجية وجهوية، ومناورات لأطراف داخلية وخارجية هددت بتأجيل الانتخابات، وانتهت بانسحاب جزئي أو كلي لبعض أحزاب الشمال ومرشحي الرئاسة المنافسين للبشير. وهذا أكد في التحليل الأخير غياب الثقة والصدقية لدى غالبية الأحزاب والقوى السياسية في السودان في قواعد العملية الانتخابية ونتائجها. في هذه الأجواء، إضافة إلى الكثير من المشكلات الفنية واللوجستية والإدارية، أجريت العملية الانتخابية، وكما هو متوقع فاز الرئيس السوداني عمر البشير بالرئاسة كما حصد حزبه معظم مقاعد البرلمان في الشمال، بينما فاز سلفا كير والحركة الشعبية في الجنوب. المفاجأة الوحيدة من وجهة نظري تتمثل في شهادات المراقبين الدوليين وبعثة الجامعة العربية لمراقبة الانتخابات من ناحية، وفي المواقف الدولية من سلامة العملية الانتخابية من ناحية ثانية، ومن الغالبية الكبيرة التي فاز بها حزب المؤتمر الوطني والتي ربما جاءت أكبر من تقديراته من ناحية ثالثة. فقد فاز بنسبة مرتفعة في الدوائر الشمالية، تعتبر غير مسبوقة في الانتخابات التعددية الخمسة التي أجريت في السودان منذ الاستقلال أعوام 1953، 1957، 1965، 1968 و1986. ما يهمني هو الدروس المستفادة من تجربة الانتخابات السودانية. ليس فقط لأهمية تلك الانتخابات، فهي بكل المقاييس تعتبر خطوة إلى الأمام نحو عودة الديموقراطية إلى السودان. ولكن بسبب الأهمية التي اكتسبتها شهادة هيئات الرقابة الدولية والعربية على سلامة الانتخابات باعتبارها أصبحت جواز مرور لنيل الرئيس المنتخب والبرلمان السوداني شرعية دولية، وللحصول على شهادة دولية بالنجاح في السير على طريق الديموقراطية. من جانب آخر أصبحت الرقابة الدولية أو الأجنبية مثار جدل ونقاش في التجارب الديموقراطية التعددية المقيدة في الدول العربية، وخياراً مستقبلياً يكمل عملية التحول الديموقراطي الطويل والمتعثر في عدد من الدول العربية وفي مقدمها مصر، التي بات الاستحقاق الانتخابي فيها على الأبواب. من هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل الرقابة الدولية ستكون حلاً مناسباً لضمان سلامة الانتخابات وحياد ونزاهة أجهزة الحكومة والشرطة التي عادة وبحكم التقاليد التاريخية تنحاز في كل انتخاب إلى حزب الحكومة ورئيس الجمهورية؟ أم أنه يمكن الأنظمة العربية التحايل على هذه الرقابة وافراغها من مضمونها الحقيقي كما حدث في انتخابات عربية سابقة؟ من هذه الزاوية يمكن التذكير بالدور الشكلي للرقابة الدولية في الانتخابات العراقية واليمنية والتونسية، ورفض الحكومة الأردنية لهذه الرقابة في انتخابات 2007 باعتبارها نوعاً من المساس بسيادة الدولة وتدخلاً يفترض ضمناً عدم نزاهة عملية الاقتراع. هذا الخطاب استخدم كثيراً في الحالة المصرية لتبرير رفض الحكومة طلب بعض أحزاب المعارضة بالسماح بوجود مراقبة دولية على الانتخابات. السؤال يكتسب قدراً أكبر من الشرعية في ضوء تجربة الانتخابات السودانية، حيث أعلن مركز جيمي كارتر واللجنة المنبثقة من الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات والإدارة الأميركية عن قبولها نتائج الانتخابات، مع أنها لم تصل إلى المعايير الدولية، كما أعربت عن قبولها لأداء المفوضية العامة للانتخابات، مع الإقرار بوقوع مشكلات فنية وإدارية في بعض المناطق. والمعروف أن مركز كارتر نشر 70 مراقباً تركزوا في الخرطوم ودارفور والجنوب، بينما ضمت بعثة الاتحاد الأوروبي 138 مراقباً، وترأستها النائبة البلجيكية فيروني دي كيزير والتي اعتبرت الانتخابات الأولى في السودان بعد 24 عاماً «خطوة كبيرة إلى الأمام»، وقالت إن السودان على غرار بلدان أخرى ورث ماضياً مثقلاً بالعنف وأن الديموقراطية عملية إن لم تبدأ رغم العنف فلن تبدأ أبداً. في السياق نفسه جاء موقف الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي – واللذان أرسلا عدداً قليلاً من المراقبين - لكن مع إبداء قدر أكبر من الترحيب بنتائج الانتخابات، فرئيس بعثة الجامعة العربية وصف الانتخابات بأنها نموذج يجب أن يحتذى به في الدول العربية والأفريقية، وإن اعترف بأنها لم تصل إلى المعايير الدولية في النزاهة والشفافية. أما بعثة الاتحاد الأفريقي فقد هنأت الشعب السوداني بنتائج الانتخابات لأنها جرت في أجواء سلمية ومن دون مشاكل كبيرة، وحذرت من المقارنة بين الانتخابات التي تجري في الديموقراطيات الغربية وتلك التي تجري في الدول الأفريقية التي تكون قد خرجت لتوها، مثل السودان، من صراعات وحرب أهلية كما تعاني من مشكلات الأمية والافتقار للبنية الأساسية. خلاصة القول إن هناك اتفاقاً دولياً وأفريقياً وعربياً على قبول نتائج الانتخابات السودانية مع أنها لم ترتق إلى المعايير الدولية. وأعتقد أن هذا الموقف يتسم بقدر من النفاق السياسي، فهو أولاً يستخدم معايير مزدوجة في تقويم العملية الديموقراطية، حيث يقر بأن ما يصلح لدول الجنوب لا يصلح لدول الشمال فيما يتعلق بعملية الإصلاح الديموقراطي والانتخابات وتداول السلطة، وهذا الإقرار سبق ومن وجهة النظر الغربية رفضه جملة وتفصيلاً. فالديموقراطية وحقوق الإنسان حزمة واحدة لا تقبل التقسيم أو التأجيل، ولا يمكن القبول بنصف ديموقراطية أو انتخابات بنصف شفافية أو نزاهة غير كاملة. ثانياً: إن مجمل التقويمات والشهادات التي صدرت عن الانتخابات السودانية ركزت على عملية الاقتراع فقط من دون ربطها بمجمل العملية الديموقراطية والاستعدادات والترتيبات التي سبقت ورافقت عملية التصويت، كما أن أعداد المراقبين الدوليين والأفارقة والعرب جد محدودة مقارنة بتوزيع مراكز التصويت في القارة السودانية (2.5 مليون كلم مربع تفتقر إلى بنية أساسية حديثة) وبالتالي فإن هناك شكوكاً مشروعة في مدى نزاهة ودقة الشهادات والتقارير الدولية، خصوصاً إذا قارنا هذه التقارير بشهادات وتقارير تحالف شبكات منظمات المجتمع المدني السوداني والذي راقب عملية الانتخابات بعدة مئات من المراقبين الذين غطوا غالبية أقاليم السودان وأعلنوا في بيان موحد أن الانتخابات لم تمكن الناخب السوداني من التعبير الحر عن إراداته واختياره لممثليه، وطالبوا بإعادة النظر في نتائج الانتخابات وناشدوا المجتمع الدولي عدم الاعتراف بها، وعدد البيان انتهاكات وخروقات بدأت منذ تسجيل الناخبين وحتى عملية الاقتراع، كما اتهم المفوضية القومية للانتخابات بعدم الالتزام بالقوانين التي سنتها بنفسها! أحكام وتقويمات نشطاء المجتمع المدني السوداني ومطالبهم تختلف تماماً مع مركز كارتر وبعثة الاتحاد الأوروبي والأفريقي والجامعة العربية، الأمر الذي يحض على التفكير في أسباب ودواعي هذا الاختلاف: هل يرجع لتحيز النشطاء السودانيين أم لتحيز الأطراف الأجنبية؟ ليست لدي إجابة محددة لكن ربما يرجع الاختلاف إلى اختلاف منظور كل طرف وتباين معاييره في الحكم وربما مصالحه أيضاً. واعتقد أن المنظور الأميركي والأوروبي لا يخلو من نزعة استعلائية غير تاريخية، بالقول إن السودان مثل كل دول الجنوب ليس بمقدوره ممارسة انتخابات حرة دفعة واحدة، خصوصاً بعد غياب 24 عاماً للديموقراطية، تخللتها حروب أهلية ونزاع مسلح في دارفور. كما أن مجرد إجراء الانتخابات من دون وقوع أعمال عنف كما جرى في كينيا وليبيريا وساحل العاج وزمبابوي يعتبر إنجازاً من وجهة النظر الغربية. بينما النشطاء السودانيون يعتقدون أن لوطنهم رصيداً عريقاً من التقاليد الحزبية والديموقراطية، وبات من حقه اجراء انتخابات على درجة كبيرة من الحرية والنزاهة. فقد كان البلد العربي الوحيد الذي تجري فيه انتخابات نزيهة إلى حد كبير منذ الخمسينات وحتى عام 1986. صحيح أنه منذ عام 1989 جرت مياه كثيرة غيرت من الأوضاع الاجتماعية والسياسية في السودان، لكن يظل النظام الحزبي في السودان أكثر عراقة من معظم الدول العربية والأفريقية، ولدى السودان نخبة عريضة من المثقفين والسياسيين فضلاً عن ارتفاع الوعي السياسي لدى غالبية السودانيين بما في ذلك كثير من الأميين. وبالتالي فمن غير المقبول تاريخياً ومنطقياً مقارنة السودان بدول أفريقيا أو بدول عربية لم يسبق لها ممارسة الديموقراطية. ثالثاً: إن موقف البين بين، أي القبول بالنتائج على رغم عدم ارتقائها إلى المعايير الدولية، قد يسمح لبعض الأطراف الدولية وللمحكمة الجنائية الدولية باستغلال الوضع في المستقبل، وممارسة ضغوط على نظام البشير وحكومته في حال تفجر الأوضاع في دارفور أو تعثر عملية تنفيذ اتفاق نيفاشا في كانون الثاني (يناير) المقبل. فالانتخابات من وجهة النظر الأورو - أميركية خطوة مهمة على طريق تنفيذ اتفاقية السلام الشامل وتحديد مستقبل البلاد السياسي، أي أن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي قد يستخدمان نتائج الانتخابات وملابساتها كعصا وجزرة لترويض الخرطوم والضغط عليها للتوصل إلى تسويات للمشكلات العالقة في السودان. وهنا مكمن الخطر في رهان الحكومة والمعارضة في السودان - وفي غير بلد عربي - على الرقابة الدولية. لا أريد أن يفهم كلامي على أنه رفض للرقابة الدولية وربطها بفكرة المؤامرة الغربية، بل يجب التعامل معها بعقلانية، فهي أداة لتطوير الممارسة الديموقراطية، لكن يمكن توظيفها سياسياً، بحسب توازن القوى ومصالح الأطراف المختلفة، من هنا ضرورة الاستعانة بها بوعي وفي إطار شروط ومعايير تعلي من شأن أداء المجتمع المحلي، وبحيث لا تكون الرقابة الدولية بديلاً عن تطوير فاعليات الرقابة الداخلية والممانعة الوطنية لآليات التزوير والتلاعب بالانتخابات. بل تكون الرقابة الدولية مكملة وداعمة للرقابة الوطنية لمنظمات المجتمع المدني وللقضاء ونشطاء الإعلام الجديد. القصد أن شغف المعارضة في بعض الدول العربية باستقدام مراقبين دوليين أو قبول الحكومة بهذه الرقابة يجب أن يمارس بوعي، وفي ظل ضوابط ليست بطبيعة الحال ضوابط ومخاوف الحكومات العربية التي تصل أحياناً إلى تجريم من يطالب بالرقابة الدولية، واعتبار المطالبة بها سلوكاً غير وطني، ينتهك سيادة الدولة. بل ما أقصده هو أولاً: الاعتماد بشكل أساسي على رقابة القضاء الوطني ومنظمات المجتمع المدني التي تتمتع بفهم عميق لواقع المجتمع وثقافته، وتتوافر لها في كثير من الدول العربية شبكات من المراقبين يمكن أن تغطي كل المناطق في الريف والحضر. ثانياً: تدويل الرقابة الأجنبية بحيث تكون ضمن أنشطة الأممالمتحدة أو منظماتها، وإذا لم يتسنّ ذلك فالبديل المناسب هو إشراك أكبر قدر من منظمات المجتمع المدني المعنية برقابة الانتخابات من دول مختلفة. ثالثاً: أن تعتمد شبكات المراقبين المحليين والأجانب على وسائل جديدة في ممارسة عملها، لعل في مقدمها استخدام تكنولوجيا الاتصال في مراقبة وتسجيل وقائع الانتخابات اعتماداً على كاميرات لمراقبة اللجان الانتخابية مرتبطة بشبكة الانترنت. رابعاً: تشجيع مندوبي الصحف وممثلي الصحافة المحلية والمدونين على مراقبة الانتخابات وتسجيل وبث وقائعها عبر وسائل الإعلام الجديد. * كاتب مصري