لا يمكن عزل التدهور الأمني الأخير في العراق عن الأزمة السياسية الخانقة التي تعصف بالبلاد والتي نتجت من رفض ائتلاف المالكي نتائج الانتخابات وإصراره على إعادة عد الأصوات وفرزها وإعادة تفسير المادة الدستورية المتعقلة بتشكيل الحكومة بشكل يخالف العرف الدستوري المتبع. الوضع الحالي للحكومة والبلد بشكل عام ضعيف جداً ويشجع المنظمات الإرهابية والمجاميع المسلحة على التحرك في المساحات الفارغة. وهناك من يعزو هذا التدهور الأمني إلى انشغال المسؤولين الأمنيين بالانتخابات ثم باحتمالات تشكيل الحكومة، وهذا الانشغال قد قاد إلى إهمالهم واجباتهم في حفظ الأمن خصوصاً أن الوزراء الثلاثة المسؤولين عنه، وهم وزراء الداخلية والدفاع والأمن الوطني، كانوا مرشحين في الانتخابات الأخيرة، الأول ضمن قائمة «وحدة العراق» المنافسة لقائمة «دولة القانون» التي دخل فيها الوزيران الآخران. وعلى رغم أنه لا يمكن استبعاد العوامل السياسية أعلاه عن التأثير على الأوضاع الأمنية، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن العناصر الخارجة عن القانون دائماً ما تستغل الأزمات السياسية وغيرها لزعزعة استقرار الدولة، إلا أن السبب الأساس لهذا التدهور يبقى عدم كفاءة الأجهزة الأمنية العراقية وتفككها، حتى مع التسليم بتأثير الأزمة السياسية على الوضع الأمني، لأن مثل هذا التأثير أو التأثر لا يحدث عادة في الأجهزة الأمنية القديرة والمتماسكة. لقد ظلت الأجهزة الأمنية العراقية منقسمة بين الأحزاب والتوجهات السياسية منذ تأسيسها قبل سبع سنوات والسبب ليس خفياً على أحد وهو أن عناصرها اختيرت على أسس طائفية وحزبية وليس على أسس الكفاءة والقدرة والحاجة أو الاستحقاق الوطني. لا يزال الدخول إلى الشرطة والجيش يتم أما من طريق الترشيح من الأحزاب السياسية أو عبر تقديم الرشوة إلى بعض المسؤولين، وفي كلتا الحالتين فإن المنتمي إليها لن يؤدي عمله بشكل صحيح أولاً لأنه ليس كفوءاً وثانياً لأنه يعلم أنه باق في موقعه ولن تناله عقوبة على أي تقصير يرتكبه لأن الحزب الذي رشحه أو الشخص الذي تسلم الرشوة لقاء تعيينه سوف يدافعان عنه ويبقيانه في موقعه مهما كان أداؤه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأجهزة الأمنية لا تزال ينقصها التدريب والمعدات والأسلحة وأجهزة كشف المتفجرات والأهم من كل ذلك المعلومات الاستخبارية الدقيقة اللازمة لحفظ الأمن في أي دولة. لا تزال القاعدة والمجاميع المسلحة تعمل بحرية في العراق، وفي بغداد تحديداً، وتروع وتقتل الناس العاديين بشكل عشوائي كل يوم على رغم تعرضها لضربات قاصمة مؤخراً عندما قُتِل أبرز قائدين فيها هما أبو عمر البغدادي وأبو أيوب المصري. لكنها مع ذلك لا تزال تنشر القتل والدمار يومياً ولو حصل هذا في أي عاصمة في العالم لعوقب المسؤولون عن الأمن على التقصير واستقالت الحكومة. القاعدة استهدفت الكثير من البلدان العربية والأجنبية لكن أجهزة الأمن فيها تمكنت من كشف خططها وقتل أو اعتقال أفرادها بأقل الخسائر وأدى ذلك إلى انحسار نشاطها أو انعدامه كلياً. أما في العراق فإن الأبرياء يسقطون يومياً في الأسواق والمساجد ودوائر الدولة بينما رئاسة الحكومة منشغلة بإعادة عد وفرز الأصوات «يدوياً» على أمل بأن تحصل على مقعد أو مقعدين كي تكون الكتلة الأكبر وتبقى في الحكم، على رغم أنها استحصلت «تفسيراً» دستورياً جديداً يسمح بتشكيل الحكومة حتى وإن لم تكن الكتلة الفائزة. إن دعوة مقتدى الصدر الأخيرة إلى إعادة تشكيل «جيش المهدي»، الذي كان قد حله عام 2008، «من أجل حماية المؤمنين في المساجد والحسينيات» هي تحد خطير لقوة الدولة وهيبتها، فالسلاح يجب أن يبقى بيد الدولة فقط. فلم تقوَ الدولة وتتماسك مكوناتُها إلا بعد إعلان الصدر عن حل جيش المهدي قبل عامين وتحويله إلى مؤسسة مدنية تحت اسم «الممهدون» وكانت تلك خطوة مسؤولة وجريئة والتراجع عنها الآن يخلق أزمة أمنية وطائفية في البلاد قد تخلف عواقب وخيمة. الصدريون حصلوا على ما يقارب الأربعين مقعداً في البرلمان الجديد لأنهم بدأوا يتصرفون كسياسيين ورجال دولة مسؤولين خصوصاً بعد حل جيش المهدي وتشذيب التيار الصدري وتنقيته من العناصر غير المنضبطة التي خرجت وشكلت كيانات أخرى ك «عصائب أهل الحق». لكن العودة إلى «جيش المهدي» والخطاب المتطرف سوف تضر بشعبية التيار دون شك خصوصاً أن زعزعة استقرار الدولة سوف يضر بالدرجة الأولى الفقراء والناس العاديين الذين يشكلون القاعدة الأساسية للتيار الصدري. المعروف أن منظمة القاعدة تحاول تأزيم الوضع الطائفي في العراق من أجل إضعاف النظام الجديد من خلال القيام بضرب أهداف دينية شيعية وسنية ومسيحية، والمطلوب من التيار الصدري وبقية القوى السياسية الوقوف بحزم ضد أي محاولة لتقسيم المجتمع العراقي وتأجيج الصراع الطائفي فيه، وليس تخندقاً مليشياوياً طائفياً يمكن أن يقود إلى كوارث. قادة التيار الصدري بشكل خاص مدعوون إلى التصرف بحذر وحنكة سياسية والابتعاد عن كل ما يقود إلى زعزعة استقرار الدولة لأن الخاسر الأول سيكون الفقراء والمحرومون الذين يحاولون خدمتهم. لقد مضى على الانتخابات العراقية حتى الآن أسابيع عدة، وستمضي أسابيع وأشهر أخرى قبل تشكيل الحكومة والسبب هو التناحر والتغالب والجدل العقيم ومحاولة سلب حقوق الفائزين والبقاء في السلطة دون استحقاق انتخابي. وكلما طالت فترة تشكيل الحكومة، بقي السيد المالكي وائتلافُه فترة أطول في السلطة، لذلك فإن ائتلاف دولة القانون ليس في عجلة من أمره فهو في الحكومة الآن ويأمل بأن يبقى فيها إن تمكن أن يغري عدداً من النواب الجدد من القوائم الأخرى بمناصب او امتيازات للالتحاق به. حكومة المالكي الآن أمام تحد أمني وسياسي خطير وقد تجد نفسها في مواجهة مع التيار الصدري من جديد بسبب فشلها في تحقيق الأمن، ومثل هذه المواجهة سوف تخلق أزمة خطيرة في البلاد في هذا الظرف تحديداً الذي تخلو فيه البلاد من سلطة تشريعية، بينما لا تتمتع الحكومة بتفويض شعبي باعتبارها حكومة تصريف أعمال. لذلك فإنها تتحمل المسؤولية كاملة عن أي تدهور أمني واحتراب طائفي خطير قد يضع مستقبل البلاد كلها في مهب الريح. من يفشل في الحكومة عليه أن ينتقل إلى المعارضة كي يصحح مساره ويجدد أفكاره ويعود ببرنامج جديد يمكن أن يصوت له الناخب مستقبلاً. دور المعارضة لا يقل أهمية عن الحكومة، وبإمكانها أن تفوز في الانتخابات حتى في العراق والدليل هو ما حصل في الانتخابات السابقة التي فازت فيها قائمة علاوي المعارضة. طريق الاستقرار والتقدم واضح وهو الامتثال لإرادة الناخب وتسليم السلطة لمستحقيها دون مماطلة وبحسب ما تمليه نصوص الدستور ومبادئ الديموقراطية. * كاتب عراقي.