فجأة وجدوا أنفسهم يغادرون السيارة ليسلكوا سيراً على الأقدام، طرقاً جبلية وعرة تتقدمهم الحمير والجمال محملة بالأمتعة والمؤن. عند حلول الظلام يشعلون الفوانيس وبعضهم يستخدم حجر الرحى لطحن الحبوب. هذا ليس مشهداً من فيلم «آلة الزمن» بل واقع يعيشه منذ أشهر سكان مدينة تعز (270 كلم) أكثر المحافظات اليمنية كثافة سكانية وأكثرها تعليماً ومدنية. «الآن تيقنت من صحة وصف الآباء والأجداد لحكم الإمامة بأنه عهد ظلام»، يقول عبدالله سليمان (32 سنة)، لافتاً إلى تشابه أساليب ميليشيا الحوثيين والرئيس المخلوع علي عبدالله صالح مع أفعال الأئمة الزيديين المتهمين خلال فترة حكمهم الذي استمر أكثر من ألف عام بإبقاء اليمن في تخلف وعزلة عن العالم. وتواصل الميليشيا المدعومة من إيران حصارها لمدينة تعز ما تسبب وفق منظمات أممية في كارثة إنسانية غير مسبوقة. وعلى رغم المطالبات الإقليمية والدولية برفع الحصار المستمر منذ شهور لم يثن كل ذلك الميليشيا الانقلابية. «بدلاً من تل أبيب ذهبوا إلى تعز». تقول أم صلاح ساخرة من الحوثيين وقوات صالح التي ترفع شعار «الموت لأمريكا الموت لإسرائيل اللعنة على اليهود النصر للإسلام». وترى أم صلاح أن ما يفعله هؤلاء «يفوق جرائم الاستعمارين العثماني والبريطاني». وتمنع الميليشيا دخول المواد الغذائية والطبية بما فيها الأوكسجين الخاص بالمستشفيات، بالتزامن مع استمرار قصفها العشوائي لأحياء المدنية، ما أدى إلى مقتل وجرح المئات من المدنيين بينهم أطفال ونساء. ولتأمين ما يبقيهم على الحياة، لجأ سكان تعز إلى استخدام منفذ جبلي وحيد مستخدمين الحمير والجمال. وانتشرت بين السكان تسميات تشبه حالهم بحال الفلسطينيين مثل إطلاقهم على أحد المعابر «معبر رفح». وبالإضافة لاستثماره «الجيش العائلي» (أي قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي والأمن القومي (المخابرات) التي أبقت على ولائها له)، عمد الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح بعد حوالى 4 سنوات من تركه الحكم تحت ضغط انتفاضة شعبية إلى إحياء النزعة الجهوية والمذهبية ليقود انقلاباً مسلحاً أطاح سلطة الرئيس التوافقي عبد ربه منصور. «ليس المهم التوقيع، المهم حسن النوايا» اعتاد فؤاد ترديد هذه العبارة المنسوبة إلى الرئيس السابق قالها لحظة توقيعه على اتفاق نقل السلطة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2011. ويرى فؤاد وآخرون أن صالح كان يبيت منذ ذلك الحين للانقلاب على ثورة فبراير الشبابية السلمية التي وإن لم تستطع إسقاط نظام الديكتاتور العسكري كلياً لكنها أجبرته وعائلته على التنحي مع تشكيل حكومة توافقية مناصفة بين حزب الرئيس المخلوع وأحزاب المعارضة حينها المؤيدة لثورة الشباب. ويفسر ناشطون حصار تعز والقصف الأعنف الذي تشنه الميليشيا على المدينة بأنه انتقام من فكرة التغيير السلمي التي يعزى لأبناء تعز نشرها وتبنيها بعد أسابيع من اندلاع أولى ثورات الربيع العربي. فيما تقول مصادر سياسية أن ميليشيا صالح والحوثيين تستميت في تعز لتبقي سيطرتها على جغرافيا الجمهورية العربية اليمنية وهي الجمهورية الشمالية التي دخلت في وحدة مع جنوب اليمن في 1990. وتعيش تعز وضعاً مأسوياً يبدو وفقاً لسكان محاصرين أقرب إلى العصور الوسطى لجهة نمط الحياة كما لجهة الأفكار التي تتبناها جماعة الحوثيين (حركة أنصار الله). وصار واضحاً أن الثورة المضادة التي يقودها الرئيس المخلوع وحركة «أنصار الله» (الحوثيون) وهي الذراع العسكرية للأحزاب الزيدية الموالية لإيران لم تتسبب فقط في حرب أهلية ثانية وتمزيق النسيج الاجتماعي، بل وأعادت اليمنيين إلى زمن سحيق على مستوى الوعي والممارسة. وتقول أم صلاح وهي مدرسة ثانوية تقيم في صنعاء أن ميليشيا صالح والحوثيين أنجزت ما فشل فيه تنظيما «القاعدة» و»داعش» مجتمعين، مشيرة إلى «النكوص» الذي أصاب الثقافة الوطنية اليمنية بحيث بات الصراع السياسي على السلطة يقدم على انه امتداد للخلاف الديني التاريخي. وتقول: «قد تعذر الجاهل أما الكارثة ففي المتعلمين من النخبة السياسية والثقافية الذين سقطوا في فخ تأييد الانقلاب الطائفي المسلح». وينظر إلى تعز بوصفها النظير الشمالي لمحافظة حضرموتالجنوبية سواء لجهة توجه أبناءها نحو التعليم والعمل المدني أم لجهة الانفتاح على العالم قبل أن تفعل النزعة المذهبية فعلها في المدن اليمنية.