صدر حديثاً عن دار «رؤية» للنشر في القاهرة كتاب «الصابئة منذ ظهور الإسلام وحتى سقوط الخلافة العباسية» للباحث المصري في التاريخ الإسلامي الدكتور أحمد العدوي. يشير العدوي إلى أن كون الصابئة ديانة باطنية لا يرخص لأتباعها اطلاع الغير على طبيعتها، ساهم في عدم وصول أي من الكتابات الدينية الخاصة بأتباعها. وارتبط ذكر الصابئة بصورة ذهنية بتصورهم على أنهم قوم من عبدة الكواكب والنجوم، انتشروا في أنحاء مختلفة من شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، ولا يوجد في القرآن الكريم أو السنّة النبوية ما يؤيد هذا التصور. وحول ضفتي الرافدين، بخاصة في المناطق السفلية من النهرين (البطائح) حيث يصب النهران العظيمان في تلك الأحواز، استوطنت – ولا تزال - طائفة الصابئة المندائيين «قادمين من فلسطين»، وهذه تسمية جيرانهم، لكنهم أطلقوا على أنفسهم لقب «المندائيين» وهي لفظة آرامية مشتقة من الجذر الآرامي «مندع»، بمعنى «عرف»، فهم «أهل المعرفة»، أو «العِرفانيون»، وهي تسمية لها دلالتها الغنوصية التي لا تخفى. وقد أحاطوا عقائدهم بسياج هائل من السرية بحيث لم يتمكن علماء المسلمين من الوقوف على حقيقة ديانتهم، على رغم المحاولات الجادة التي بذلها البعض منهم، حتى إن البيروني ذكر أنه بحث طويلاً في أمر هؤلاء الصابئة الكائنين بسواد العراق حول قرى واسط فما حصَّل من أسبابهم شيئاً البتة، على حد قوله. تدور اعتقادات المندائيين حول وجود خالق أزلي واحد منزَّه، واعتقادهم في الله يشبه كثيراً اعتقاد بقية الطوائف الغنوصية، فهم يدركونه من طريق الفيض الإلهي، وهم لا يعبرون عنه إلا بصيغة الجمع، ويعتقدون أنه انبعث من ذاته، وتليه مجموعة من المخلوقات النورانية (الملائكة) وهم مخلوقات متوسطة بين الروحانية والمادية، فالروحنيات لديهم مخلوقة من كلام الله، وكلام الله لا يصل إلا بواسطة مخلوق بين النور والتراب، ويعد ذلك تجسيداً للمعتقدات الغنوصية بوجود وسائط بين الخالق وخلقه، وهذه المخلوقات تعمل على إدارة الكون وتحقيق مشيئة الخالق. كما يعتقد المندائيون بالبعث والحياة الأخرى بعد الوفاة، لكن العقيدة المندائية تتميز بنظرية العالم الموازي، إذ يعتقد المندائيون بنهاية العالم، لكنهم لا يعترفون بقيام الحياة الأبدية على أنقاض الحياة الأولى في هذا العالم، وإنما يعرفون العالم الآخر بأنه عالم موازٍ، أي كائن في اللحظة نفسها، كما هي الحال بالنسبة إلى عالمنا المادي، فالروح تحاسب بعد الموت مباشرة. ولا وجود للبرزخ ولا للقيامة في المندائية، فهم يؤمنون بنهاية العالم، ولكن ليس بالضرورة قيام الدينونة لأنها قائمة الآن بالفعل، لذا فهم يعتقدون بأن الروح خالدة بينما الجسد فانٍ، ويقدسون الماء الجاري ويعتبرونه رمزاً للحياة، ولا يجوز العماد إلا فيه، لكن التعميد عندهم ليس طقساً للندم وإعلان التوبة كما في المسيحية، لكنه طقس تطهري بامتياز. وقد أفتى الإمام أبو حنيفة الخليفة أبا جعفر المنصور بجواز إقرار الصابئة على دينهم ووجوب أخذ الجزية منهم قياساً على موقف النبي (صلي الله عليه وسلم) من مجوس هجر. وممارستهم التعميد دفعت الفقهاء المسلمين إلى إلحاقهم بالنصارى. وسمح هارون الرشيد لهم بممارسة شعائرهم واحتفالاتهم وأعيادهم شرط أن تمارس داخل هياكلهم وألا يجهروا بها، لكن المأمون خيَّرهم بين الإسلام أو دين آخر معترف به مع أداء الجزية، وترتب على ذلك إسلام عدد منهم. ويعد ثابت بن قرة مؤسس مجد الصابئة في بغداد في زمن الخليفة المعتضد الذي عيَّنه مستشاراً ونديماً له وأصبح للصابئة نفوذ كبير في بلاط الخلافة وازدهرت أوضاعهم الاقتصادية والمالية، واستطاع الطبيب بن زهرون التقرب من الخليفة المكتفي وأصبح طبيبه الأثير ومن أخص منادميه. وأصبح نفوذ الصابئة أشبه بنفوذ جماعة التكنوقراط في مجتمعاتنا الحديثة، فقد كانوا يؤسسون نفوذهم في دار الخلافة على تخصصاتهم العلمية، فنبغوا في علوم الطب والفلسفة والأدب وسائر علوم الأقدمين، وبخاصة الفلك والتنجيم وتقربوا من السلطة من دون رغبة حقيقية في المناصب السياسية، إذ كان وضع طائفتهم الحساس كقوم يعاملون معاملة أهل الذمة من أكبر الدوافع التي دفعتهم إلى هذا الحذر. ويعتبر عصر بني بويه هو العصر الذهبي للصابئة في العراق، حيث مال البويهيون إلى الاعتماد عليهم وزاد نفوذهم وانتعشت أحوالهم الاقتصادية وحققوا أكبر مكاسب مادية من دون الاستئثار بالسلطة، لكونهم يفتقرون إلى أهم مقوماتها وهو الإسلام وفق شروط الولاية في الاصطلاح الفقهي الإسلامي. فالاطلاع على الرسائل ذات الصبغة الرسمية في رسائل أبي إسحاق الصابئ الذي شغل منصب متولي ديوان الإنشاء في عهد الخليفة الطائع، كفيل بإيضاح سياسة بني بويه في خلق مساحات واسعة من التوازن بين السنة والشيعة وأهل الذمة ومن يجرون مجراهم أيضاً. وكان للصابئة مقدرة كبيرة للتعايش مع الآخر واستيعابه، فلم يكونوا يعطون البعد الديني الأولوية عند التواصل الاجتماعي مع غيرهم من أهل الملل والديانات الأخرى. وخير مثال على ذلك الصداقة الوطيدة التي ربطت بين أبي إسحاق الصابئ والشريف الرضي الذي تعرض لانتقادات شديدة بعد كتابته مرثية في الأول عقب وفاته، واستشعر الشريف الرضي الحرج فاضطر إلى الدفاع عن نفسه بقوله: إنما رثيت فضله، لا دينه. ويعد أبو إسحاق الصابئ من أبرز علماء البلاغة العرب وساهم في تطور فن النثر خلال النصف الثاني من القرن الرابع الهجري. وكان للصابئة دور في تطور العلوم التجريبية، وقد ظلت حران معقل علم الفلك ونشطت الدراسات الفلكية في بغداد، ويعد ثابت بن قرة من أشهر علماء الفلك الحرنانية، فقد أنفق شطراً كبيراً من حياته في مراقبة الشمس وله ملاحظات على التقويم الشمسي ضمّنها في كتابه «رسالتان في سنة الشمس». وكذلك البتاني الذي يعد من أشهر علماء الفلك في التاريخ، صاحب كتاب «الزيج» الذي يعد أحدى المحطات الرئيسة لنظرية كوبرنيكوس عن القطع الناقص. ويعد ثابت بن قرة من أشهر الأطباء، ليس في العصر العباسي فقط، وإنما في تاريخ الإسلام قاطبة. ولم نعد نسمع عن الحرنانية مرة أخرى عقب اقتحام جحافل هولاكو خان، حران عام (657ه - 1258م) والذين أعملوا القتل في سكانها، ثم سووا المدينة بالأرض فلم تقم لهم بعد ذلك التاريخ قائمة.