سؤال يقف خلف هذا المقال ولكنه يسبقه هنا: ما مدى احتمالية أن يحكم على بعض ثقافة مجتمع بأنها ثقافة تتسم بالخرافة وثقافة تذيبها رائحة الإشاعات؟ وما مدى علاقة ذلك بالوطنية ودرجتها؟ بمعنى هل بإمكاننا أن نجد مجتمعاً يمكن أن يتحكم في بعض أنساقه نسق خرافي صرف حول الإشاعة يتكرر لمرات عدة ويصعب اكتشافه؟ ثقافة المجتمع هي انعكاس لمدخلاته الفكرية والفنية والمعرفية، كل ثقافة وجدانها بما فيها ينضح، الوجدان الاجتماعي هو حالة من التعاطي الدائم مع واقع الحياة واستثارة هذا الوجدان ليس شرطاً أن تكون عقلانية بالدرجة الأولى، فهي في تصرف المجتمع وتحت رحمة ثقافته، انجراف الناس خلف الثراء في قصص مكائن الخياطة «سنجر»، واندفاع الناس وانهيار الأسهم، كلها نتائج وليست أسباباً لمعطيات تشكلت داخل الثقافة السائدة وقدرتها على تكوين نمط الإشاعة. علاقة الإنسان بالخرافة المرتبطة بالإشاعة هي علاقة إيمان واعتقاد تنتفي فيه شروط التعقل والتفكر، فالمشكلة تتفاقم عندما يفقد المجتمع ثقته بالحقيقة وعلى إثرها يفقد الثقة في معظم الرموز الاجتماعية ويفقد الثقة في كل الوسائل المنطقية لعرض الحقيقة. وما دامت هناك «ثقافة خرافة»: «وهي نسق التخريف المنظم الذي لا يرتكز على أية مقومات عقلانية»، إذاً فهناك بالضرورة خرافة في الثقافة، هذه الخرافة تقوم على استدراج المجتمع إلى مناطق تختفي فيها ملامح العقلانية والرشد، حيث تبدأ بعزف ترانيمها على عقول البشر الذين يرددون في البداية بصوت خافت ثم لا يلبث المجتمع حتى يستمع إلى تلك الأصوات من مسافات بعيدة. قد يرى الكثيرون أهمية الثقافة في تعزيز الوعي المجتمعي وتوعية أفراده من المواطنين بحقوقهم وواجباتهم وإثراء حياتهم العامة، ولكن قد لا يرى إلا القليل أهمية الثقافة في حياة المجتمع اليومية، وقد يجد الكثيرون أنه بدون الثقافة لا يمكن لأفراد المجتمع التعاطي والتكيف مع متطلبات الحياة ومستجداتها وتطوراتها، ولكن ذلك لا تحتاجه إلا فئة معينة من المجتمع. المجتمع بجميع فئاته مرتبط وبشكل طردي مع حجم الوعي في ثقافته، لذلك يمكننا القول إنه كلما كانت الثقافة أكثر وعياً انعكس ذلك على أفراد المجتمع، ولكن الأزمة الحقيقية هي مَنْ يحدد درجة الوعي وانعكاسها ويضع مقاييسها في ثقافة المجتمع؟ هذه المهمة مشتركة بين كثير من مؤسسات المجتمع، ولكن التعليم والأنظمة الاجتماعية والإدارية مسؤولة عن بث الوعي الحقيقي للعقل الجمعي بحيث يتم ترقيته إلى الدرجة التي لن يكون معها محتاجاً لتصديق الخرافات الإشاعية إذا كان يثق ويدرك كيف تسير المعادلة المعرفية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمعه. السؤال القادم والأهم: ما علاقة ذلك بالانتماء الوطني ودرجته؟ ليس سهلاً أن تكون مواطناً ما دمت لا تعير العلاقة بينك والمنطقية والعقلانية في حياتك الاجتماعية أي شكل من الاهتمام، لأن الفرد لن يستطيع أن يحب وطنه بعاطفة مجردة دون أن يساندها منطقية مكتملة تفسر تلك العلاقات المحتملة بين الفرد ووطنه. «إن مفهوم الانتماء كما يصيغه علماء الاجتماع أساسه علاقة اتصال نفسي من الفرد نحو الجماعة في زمان ومكان محددين، ويقع على النقيض منه مفهوم الاغتراب، ويعني الابتعاد النفسي للفرد عن ذاته وعن جماعته... من ناحية أخرى فإن الانتماء هو علاقة تبادلية بين الوطن والمواطن، وذلك على عكس ما يتصوره الكثيرون على أن تلك العلاقة هي من طرف واحد، أساسها المواطن تجاه وطنه». في ورقة بحث حديثة بعنوان «صناعة المواطنة في عالم متغير» يرى الباحث أن عدم القدرة على إعطاء معنى «للانتماء»، وعدم وجود إطار قيم ينتظم من خلاله المجتمع يفرز حالة من التشتت والتفلت... ولذلك ففقدان القواعد المشتركة لعيش حياة مشتركة تنتج مجتمعاً محلياً تائهاً تتآكل فيه الثقة وتزداد فيه فيروسات أهواء الفردية والاستبدادية والانعزالية... وذلك ما يقوض معنى «المواطنة» الحقة، بل إن النتيجة المتوقعة كما يراها علماء الاجتماع الإنساني لهذا الواقع المتردي هي انشغال الناس، خصوصاً شبابهم بالسعي اليائس بحثاً عن معنى للانتماء تنتهي بهم - أحياناً – للخضوع إلى أشكال من العصبيات والتطرفات الموغلة في الغرابة كالوقوع فريسة في شراك الخرافة والشائعات. مشكلة هذه الصورة أنها تأخذ فئات من المجتمع لديها نذر بسيط من الوعي، ولكنها عندما ترى الشائعات والخرافات وهي تكبر وتكبر تتولد لديهم أحاسيس مختلفة تبعث الشك في وعيهم، مما يضعف مقاومتهم لهذه الإشاعة فيكونون جزءاً منها ويتخلون عن وعيهم ولو بشكل مؤقت. الواعون في المجتمع يقفون كمتفرج ليس أكثر، ومنهم المثقفون الذين يكرسون نقدهم لهذه الشائعات، ليس من خلال بعد اجتماعي ولكن من خلال انتقاد درجة الوعي التي يتمتع بها أفراد المجتمع، وهنا الأزمة لأن المثقفين في المجتمع والمهتمين بمحاربة الشائعات والخرافات يحاكمون الإشاعة والخرافة، ولا يحاكمون درجة الوعي وأسبابها، وخير مثال على ذلك أنه عندما ينتشر وباء مرضياً لا ينتقد المرض بل تفتح المراكز والمستشفيات لاستقبال مرضى ذلك الوباء، إضافة إلى تكريس البحث العلمي لإيجاد علاج لهذا الوباء، الشائعات والخرافات ليست سلبية لأنها فقط تنتشر بين الناس وتثير قضايا تؤثر على المجتمع، الشائعات والخرافات سلبية لأنها تبدأ بإيمان مواطن فرد بأهميتها فيقوم بنقلها مع درجة عالية من الإيمان بهذه الخرافة إلى آخرين فتتدحرج ككرة الثلج لتبلغ أقصى نقطة في المجتمع حيث الوطن الكبير. * باحثة في الشؤون الأمنية والفكرية