يبدو المجتمع الفلسطيني الغائب الأكبر في مجمل التجاذبات والتفاعلات والمداولات الفلسطينية، التي باتت تنحصر اليوم في طبقة سياسية مهيمنة، متموضعة في الفصائل السائدة؛ بغض النظر عن التباين في مواقفها وفي توظيفاتها السياسية. وتمكن إحالة غياب المجال المجتمعي، وهذا الانحسار الكبير في مجال المشاركة السياسية، في العمل الوطني الفلسطيني، إلى عديد العوامل، ومن ضمنها تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة، وهذا ينطبق على الوضع في قطاع غزة والضفة، وعلى حركتي فتح وحماس، في آن معاً. معلوم أن التحول إلى سلطة يختلف، ومن ناحية نوعية، عن التحول إلى نظام سياسي، من جهة الأدوات والوظيفة، وشكل العلاقة مع المجتمع. الأنكى من ذلك أن هذا التحول، في الحالة الفلسطينية (التي باتت تقارب الحالة العربية السائدة) جرى في ظروف عمليات غير طبيعية، أي بنتيجة عملية سياسية ناقصة ومجحفة (اتفاق اوسلو 1993)، وقبل انجاز هدف التحرر الوطني (ولو على مستوى إنهاء احتلال الضفة وغزة)، وفي ظل حال من الاقتتال والاختلاف والانقسام في الحركة الفلسطينية (الذي تكرس بعد سيطرة حماس بوسائل القوة والإقصاء على قطاع غزة 2007). وكان المجتمع الفلسطيني، في مرحلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، أسهم في توليد حركته الوطنية المعاصرة، وأضفى عليها قدراً عالياً من الحيوية والتنوع، ما رسّخ مكانتها، باعتبارها الكيان السياسي لمجمل لشعب الفلسطيني. ففي تلك المرحلة، عبر الفلسطينيون عن انخراطهم بحركتهم الوطنية، التي كانت ما زالت في مرحلة فتية، بأشكال شتى، وبذلوا في سبيلها تضحيات جمّة؛ حتى من دون المساءلة عن الانجازات المتحققة. أما تلك الحركة، بفصائلها المتعددة (ولا سيما منها حركة فتح)، فعبّرت عن التحامها بمجالها المجتمعي، بإقامة أشكال ومستويات مختلفة من الإطارات والمنظمات الشعبية (وضمنها اتحادات الطلاب والعمال والمعلمين والمرأة والشباب والرياضة والكتاب والصحافيين والأطباء والمهندسين والفلاحين... الخ)، فضلاً عن منظمات الميليشيا، والكثير من الإطارات الخدمية في المجتمع. على رغم كل ذلك نستطيع القول إن مسار تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة لم يبدأ مع قيام الكيان الفلسطيني، في الضفة والقطاع (1994)، وإنما هو نشأ قبل ذلك بكثير. وفي الواقع فقد كانت تلك الحركة، منذ مراحلها المبكرة، اتسمت بنوع من الازدواجية، بين كونها حركة تحررية، من جهة، وكونها نوعاً من سلطة (في أماكن وجودها)، من جهة ثانية؛ بالنظر الى طغيان طابعها العسكري، وتفشي ظاهرة «التفريغ» (أو الزبائنية) في إطاراتها، وقيامها بأعمال خدمية للمجتمع في مختلف أماكن وجودها. ومن العوامل التي أسهمت في إضعاف البعد المجتمعي للحركة الوطنية الفلسطينية، أيضاً، يمكن احتساب واقع التمزق في المجتمع الفلسطيني (منذ النكبة)، وتوزعه على كيانات مختلفة، وخضوعه لتجاذبات وتوظيفات سياسية متباينة، الأمر الذي أوجد لديه أجندات سياسية متعددة، وربما متفارقة. تأسيساً على ما تقدم، يمكن القول إن افتقاد الحركة الوطنية الفلسطينية إقليمها الخاص، وتعرض مجتمعها المفترض للتمزق، ونشوءها خارج أرضها... حدّت من قدرتها على تكوين مجالها المجتمعي، خصوصاً مع وجود سلطات عربية متعددة، شكّلت، وبطرق مختلفة، جسماً عازلاً ومقيداً لقدرة هذه الحركة على العمل في هذا المجال. بالنتيجة، فإن محدودية قدرة الحركة الفلسطينية على العمل مع مجتمعها (أو «مجتمعاتها»)، أضعفت مجالها المجتمعي، وأسهمت في عزلها عنه. وفي المقابل، فقد أدى كل ذلك إلى الحد من قدرة المجال المجتمعي على المشاركة وعلى التأثير فيها. ثمة نتيجة أخرى، تمخضت عن هذا الوضع أيضاً، تتمثل في أن هذه الحركة (وعلى رغم طابعها الشعبوي الشكلي)، باتت وكأنها عابرة للمجتمع، أو فوق المجتمع، حيث شكلت المنظمات الفلسطينية نوعاً من مجتمع مواز، للمجتمع الفلسطيني العادي، له سماته الخاصة، بعلاقاته وطريقة تحصيله لموارده، وقد انسحب ذلك على طريقة نظرة هذا «المجتمع» الى السياسة، والعمل السياسي (بالمعنى السلبي للعبارة). وعلى الأرجح، فإن ظاهرة العزل والتفارق والتمايز، بين الحركة الفلسطينية ومجتمعها (وهي ليست ظاهرة خاصة وإنما شهدتها غالبية تجارب حركات التحرر الوطني والأحزاب التي تسلمت السلطة في الكثير من الدول العربية وتجارب الدول الشيوعية السابقة)، إنما تكرست وتعززت بنتيجة ضعف اعتمادية الحركة الوطنية الفلسطينية، في مواردها، على شعبها، واعتماديتها العالية على الدعم الخارجي. كما أن غياب الإقليم، والمجتمع الخاص، أسهم في عدم مبالاة هذه الحركة بشأن مسألة المشاركة السياسية، وبالتالي فقد قلل ذلك من ولائها أو من حافزيتها لتكوين المجال المجتمعي لها، وعدم إعطائه الأولوية المفترضة في عملها. وبديهي، فإن غياب البعد الثقافي في عمل الحركة الوطنية الفلسطينية، وضعف البعد التمثيلي، وغلبة البعد الاحترافي (ولا سيما العسكري) أسهمت بدورها في مفاقمة هذا الوضع. من كل ذلك، يمكن تبين أن ثمة عوامل ذاتية، وعوامل موضوعية، أيضاً، أسهمت كل منها بدورها في تحديد او تهميش المجال المجتمعي للحركة الوطنية الفلسطينية. ومع ان هذه الحركة أسهمت في بعث الهوية الوطنية الفلسطينية، وصياغة وحدة الشعب الفلسطيني، في مراحلها المبكرة، إلا أنها لم تعمل على تطوير هذا الانجاز، ولا الحفاظ عليه، في وضع فلسطيني خاص، يعتبر فيه العمل من اجل حضور الفلسطينيين كشعب، وبناء إطاراتهم المؤسسية وبلورة هويتهم الوطنية، لا يقل أهمية عن النضال ضد إسرائيل وسياساتها. هكذا، فإن الحركة الفلسطينية لم تنجح ليس فقط في مواجهة عدوها، وإنما هي لم تنجح في صيانة وحدة شعبها، ولا في بلورة كيانه السياسي. ويخشى القول إن الطبقة السياسية السائدة (على اختلافها) غير مهتمة، إلى الدرجة المناسبة، لما يحصل من تفارق بينها وبين مجتمعها، ولا لما يحصل من تمايزات وتباينات بين مختلف التجمعات (أو «المجتمعات») الفلسطينية، ولا لحال الغياب والتهميش والتمزق في مجالها المجتمعي، فهي ساهية عن كل ذلك، بتكريس امتيازات نظام «الكوتا»، وبالسياسات اليومية، وبالمزايدات والتنافسات الفصائلية.