تبدو إيران اليوم حريصة على إبداء ثقتها بضعف قدرة المجتمع الدولي على ممارسة ضغط يلزمها بتغيير سياستها النووية. ولا تبدي قيادتها هذه الثقة من فراغ، ولا على طريقة سياسة المقامرة التي اتبعها النظام العراقي السابق فخسر بسببها كل شيء. غير أن تشددها الذي يزيد أحياناً عن الحد ينطوي على مخاطرة، على رغم قيامه على حسابات معينة. وتستند هذه الحسابات إلى ركيزتين هما اللتان تعطيانها، على الأرجح، ثقتها الزائدة بقدرتها على مواصلة برنامجها النووي بطريقتها. ففضلاً عن أن تاريخ العقوبات الدولية لا يسجل إلا قصة نجاح كاملة واحدة في حالة جنوب إفريقيا، تظن إيران أن من الصعب الوصول إلى إجماع بين القوى الكبرى عليها. وعلى رغم أن ليس من الحكمة دائماً بناء سيناريوات المستقبل على أساس تجارب التاريخ، فإغفال هذا التاريخ ليس من العقل في شيء. والتاريخ، بهذا المعنى، يعطي إيران شعوراً بالاطمئنان. فلم تحقق العقوبات الدولية نجاحاً إلا على سبيل الاستثناء. فمن بين 11 حالة، معظمها في ظل النظام العالمي الراهن الذي تنفرد الولاياتالمتحدة بقمته، جاء النجاح المشهود في حالة جنوب إفريقيا التي أُسقط نظامها العنصري السابق. وكان الفشل بدرجات متفاوتة حصاد بقية الحالات بدءاً بروديسيا التي لم تكن العقوبات العامل الحاسم في تغييرها، ووصولاً إلى العراق الذي لجأت الولاياتالمتحدة في النهاية إلى غزوه بعد أكثر من 12 عاماً على إخضاعه لمنظومة عقوبات شديدة القسوة. وفي معظم الحالات، اقترنت العقوبات عبر مجلس الأمن بأخرى أميركية أوسع نطاقاً فُرضت أيضاً على ما يقرب من 20 دولة لم تصدر في حقها عقوبات دولية. وكانت النتيجة في بعض هذه الحالات، وبينها إيران، أن العقوبات الأميركية الإضافية ألحقت بمصالح الولاياتالمتحدة أضراراً تفوق ما أصاب الدولة المراد عقابها. فقد حرمت العقوبات المنفردة شركات أميركية من مكاسب ممكنة، وأدى تحالف الأوروبيين مع واشنطن إلى تفضيل طهران الاعتماد على شركات غير غربية، فتنامت في إيران مصالح صينية يراهن صانعو القرار المحافظون في طهران على أنها تكفي كابحاً للاندفاعة الأميركية – الأوروبية صوب فرض عقوبات جديدة. وعلى رغم أن الصين انضمت إلى الإجماع الدولي مرتين قبلاً في معاقبة إيران، فقد نجحت في كل منهما في تخفيف العقوبات. وما زالت طهران تراهن على أن الصين لن تضحّي بمصالح اقتصادية وتجارية هائلة معها. فقد أصبحت بكين الشريك التجاري الأول لها في العالم. وبلغ حجم التبادل التجاري، العام الماضي، نحو 29 مليار دولار. وهذا فضلاً عن وصول استثمارات الشركات الصينية في مشاريع النفط والغاز الإيرانيين إلى نحو 50 مليار دولار، نُفذ منها حتى الآن ما بين 35 و40 ملياراً. غير أن حسابات طهران، هنا تحديداً، تحتاج إلى مراجعة في ضوء اتجاه الصين إلى خفض وارادتها النفطية الكبيرة من إيران. وقد انخفضت فعلاً في الشهرين الأول والثاني من 2010 بنسبة تقرب من 40 في المئة مقارنة بالفترة نفسها في العام الماضي، مع أن حاجات الصين النفطية لم تقل. والدليل أن وارادتها من السعودية وروسيا وأنغولا زادت في الفترة نفسها بنسب 5.4 و5.5 و7.6 في المئة على التوالي. وهذا مؤشر بالغ الأهمية لا بد من أن تأخذه إيران في الاعتبار. ولكن موقف الصين ليس السبب الوحيد الذي يدفع إيران إلى الرهان على صعوبة بناء إجماع لفرض عقوبات جديدة. فهناك خلاف بين دول غربية، بل في داخل حكومات بعض هذه الدول، على نوع العقوبات التي يمكن اعتبارها أكثر تأثيراً. ففي الوقت الذي يرى اتجاه يمكن اعتباره تقليدياً أن العقوبات الأكثر شمولاً هي الأفضل والأشد تأثيراً، يذهب اتجاه آخر إلى أن المطلوب عقوبات ذكية تضغط على نظام الحكم من دون أن تلحق ضرراً بالشعب. وقد ازدادت أهمية هذا الاتجاه الثاني بعد الأزمة الداخلية التي اندلعت بسبب الاحتجاج على نتائج انتخابات الرئاسة الإيرانية العاشرة التي أجريت العام الماضي. وإذ يستذكر هذا الاتجاه تجارب سابقة أدت فيها العقوبات إلى نتائج عكسية، حيث أتاحت لنظم الحكم التي استهدفتها تشديد قبضتها ونغّصت في المقابل حياة شعوب، فهو ينبّه إلى أن عقوبات كهذه ستضعف مركز الإصلاحيين الإيرانيين الذين يسعون إلى التغيير من الداخل. ويعني ذلك أن حسابات إيران المستندة إلى صعوبة بناء إجماع دولي في هذه الظروف ليست صائبة. فقد يكون ميل أوساط غربية إلى عقوبات محدودة ولكنْ ذكية عاملاً مساعداً في الوصول إلى توافق مع الصين على استصدار قرار جديد من مجلس الأمن بأسرع مما تتوقع طهران. فالأرجح أن الاتجاه الغربي، الذي يميل إلى عقوبات ذكية لا تضعف الحركة الإصلاحية في إيران، لا يتمسك بالعقوبات الأكثر إثارة للخلاف مع الصين مثل حظر تصدير البنزين واستيراد النفط. فهذا حظر سيتحمل الشعب الإيراني عموماً، والفئات الأقل دخلاً بصفة خاصة، وطأته إذا طُبق. ويدرك دعاة العقوبات الذكية سذاجة المقارنة بين الوضع الراهن وما حدث خلال الثورة على نظام الشاه قبل أكثر من ثلاثين عاماً عندما أغلقت الإضرابات حقول النفط. فقد انخفض الإنتاج من أكثر من ستة ملايين برميل يومياً وقتها إلى أقل من مليون واحد على نحو كان له أثر جوهري في إضعاف النظام وبدء العد التنازلي الذي انتهى بإسقاطه بعد شهرين فقط على الشروع في تلك الإضرابات. فلا شاه هناك اليوم في إيران، ولا خميني يستعد للعودة، ولا حالة ثورية. ولذلك ينبّه أنصار العقوبات الذكية إلى أن العقوبات الأكبر والأكثر شمولاً، كحظر تصدير البنزين وفرض قيود على استيراد النفط، إنما تؤذي الناس الذين يريد الغرب كسب ودهم، أكثر مما تضر النظام. وإذا تغلب هذا الاتجاه، فلن يكون صعباً التوافق على منظومة عقوبات تستهدف أركان نظام الحكم عموماً ومؤسسة «الحرس الثوري» والشركات التي تتبعها أو تمتلك حصة كبيرة فيها خصوصاً. ولبعض هذه الشركات أهمية خاصة في عصرنا الراهن، مثل شركة الاتصالات الإيرانية. ولذلك فإحدى العقوبات المطروحة في هذا الإطار فرض حظر صارم على تزويد هذه الشركة أنواعاً معينة من التكنولوجيا. ويعني ذلك أن إيران ليست في هذا الوضع المريح الذي تحرص على إظهار أنها تتمتع به، وأن اطمئنان قيادتها إلى صعوبة تحقيق إجماع لفرض عقوبات جديدة عليها لا يقوم على أساس كاف.