سبع سنوات عجاف مرت على احتلال بلاد الرافدين، ووصفنا لتلك السنوات بأنها كانت عجافاً لم يجانب الحقيقة فقد كانت سنين قاسية ثقيلة على شعب العراق في كل مناحي الحياة، وابتلي باحتلال بغيض دبره بوش الابن الذي غادر البيت الأبيض غير مأسوف عليه، وتبعه بلير الذي تنبه حزبه لما ألحقه به من ضرر جسيم فطلب منه الرحيل من رئاسة الوزراء ليخلفه براون، ولكن العراق بقي على رغم رحيل الرجلين عن السلطة حبيس الاحتلال! والتاريخ يقول والوقائع تؤكد ان كل احتلال يذل الشعوب بعد عزها ويعيث في الارض فساداً ويهلك الحرث والنسل ويزرع الخراب في كل بيت وساحة، ويزهق الأرواح البريئة، ففي العراق هلك أكثر من مليون ونصف مليون عراقي خلفوا وراءهم طابوراً طويلاً من الثكالى والأيتام والأرامل، وجرح عدد غفير ناهيك عن المعوقين، وهجر الملايين ديارهم إلى خارج بلادهم في الأردن وسورية ولبنان ومصر وغيرها من الدول العربية والأجنبية، واستقبلت لندن وواشنطن بعض الوافدين الذين تعاونوا مع المحتلين، ليُمنحوا إما الجنسية أو اللجوء السياسي، وبقي معظم العراقيين تحت رحمة المحتل الذي عاث بهم وببلادهم وخيراتها فساداً. لقد كان حصاد تلك السنوات العجاف مراً قاسياً على شعب العراق، فقد تعرض كثيرون منهم للذل بعد عز، وللفقر بعد غنى، حتى أصبحوا يتلقون الصدقات من المحتل وأعوانه، بعدما كانوا يتصدقون من فائض ثروات بلادهم، ويحدث هذا على رغم أن المصادر الدولية والعراقية تؤكد ان عائدات النفط العراقي خلال سنوات الاحتلال بلغت أكثر من 200 بليون دولار، ولكن الشعب العراقي لم ير أثراً لهذه المبالغ الضخمة في حياته ومعاشه، لأن ببساطة قد تم ابتلاعها بكل وسائل الفساد من المحتل وأتباعه في بلد بلغ ترتيبه في قائمة الفساد ال 135 ليحتل مقدمة قائمة الدول الأكثر فساداً! وهكذا أصبح جلّ أهل العراق محرومين من عائدات النفط العراقي الذي هو أصلاً ملكهم من دون غيرهم، وما زاد الطين بلة ان الاحتلال خطط أثناء غزوه عن قصد وسوء نية لضرب البنى التحتية لاقتصاد العراق وعاد بالعراق إلى العصور المظلمة، فالكهرباء والماء مثلاً أصبحا عزيزي المنال باستثناء المنطقة (الخضراء) والطرق والبنية التحتية تعرضت هي الأخرى للدمار، حتى الصحة والتعليم وهما من الأساسيات لحقهما ما لحق غيرهما من المرافق من دمار، ودمرت دور العبادة والجامعات والمعاهد وانهارت الجسور وقصفت المصانع ولوحق العلماء وتمت تصفيتهم جسدياً حتى لا يسهموا في بناء العراق واتضح ان كل ما يهم المحتل وأعوانه هو النفط الذي جاؤوا بسببه من بعيد! وقصد الاحتلال ان يحطم كرامة الشعب العراقي ويدمرها مثلما دمر بنية العراق الأساسية، فامتلأت السجون قبل فضيحة أبو غريب وبعدها وحتى اليوم، وما حدث في أبو غريب يؤكد ان إذلال الشعب كان مخططاً له، ذلك ان الشعب المنكسر لا يفكر في المستقبل، والتاريخ يقول ان معظم الدول التي انهارت والشعوب التي زالت كانت بداية سقوطها نتيجة الانكسار النفسي والشعور بالهوان، فالديموقراطية التي أعلن ميلادها بوش وبلير على ارض العراق وقالا انهما جاءا إلى ذلك البلد من أجلها (ماتت) على أرض عاصمة الرشيد وكل ما خرج من رحم الديموقراطية الموهومة هو تقسيم العراق ليصبح وسطاً من دون نفط وشمالاً وجنوباً يغرق بالنفط، وقد يلد الزمان ما هو أفدح وأمر على مستقبل العراق وأهله، وتقسيم العراق وهو واحد من الحلقات الثلاث التي اعتمدها الاحتلال وهذه الحلقات هي: تحطيم البنية التحتية، اذلال الشعب وكسر كرامته، ثم تقسيم العراق! وثالثة الأثافي أن الصراع على السلطة في العراق ينبئ بشر مستطير، فالطائفية أعلنت عن نفسها جهاراً نهاراً، والأحزاب بانت أهدافها، والقبلية رفعت رأسها، وتنازع السنّة والشيعة والأكراد، وبلغ الأمر أن الأكراد أعلنوا استقلالهم المبدئي في الشمال وثرواته النفطية الضخمة، بل إن من يقرأ وثيقة جو بايدن لفيديرالية العراق، ومن يتمعن في الواقع المعاش على ارض الواقع يرى أن النظام الفيديرالي قد تتعدد ولاياته في البلاد التي كانت يوماً موحدة وكانت وحدتها عمقاً استراتيجياً للأمن القومي العربي! من يقرأ خريطة العراق طبقاً للتعدد الاثني والطائفي، يدرك النتيجة الحتمية على تفكك العراق في ظل تلك القوى السياسية التي تتصارع داخله على السلطة، على رغم أن المحتل عمل ولا يزال يعمل على خلق نظام سياسي جديد يتناغم مع السياسة الأميركية وسياسة الدولة العبرية في المجال السياسي والأمني والاستراتيجي والنفطي. وإذا كانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أُجريت في السابع من آذار (مارس) الماضي قد خرج من رحمها فريقان يتصارعان على السلطة بزعامة نوري المالكي واياد علاوي، وكل من الحزبين يسعى لخطب ود الأحزاب الأخرى للانضمام إليه لتشكيل الحكومة، فان مستقبل النظام السياسي في بلاد ما بين النهرين سيعلن عن مفاجآت كبرى لن تكون في مصلحة وحدة العراق، ولن يخرج المحتل قبل أن يشهد تقسيم العراق وتفتيت وحدته في ظل نظرية بلاد العم سام لشرق أوسط جديد يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية. المهم أن أهل العراق الذين حطم عاصمتهم هولاكو عام 656ه، جاء بوش الذي يعتز باعتراف بلاده بالدولة العبرية فور تأسيسها على ارض العرب، وبدعمها بلا حدود، وبلير الذي يفتخر بأن بلاده صاحبة وعد بلفور، ليدمرا بغداد والعراق كله عام 2003م، فتفوقا على هولاكو في جرائمه وأفعاله، ونقلا العراق من عصر النور إلى عصر الظلام. العراق صاحب ثالث أكبر احتياطي نفطي مؤكد عالمياً (115 بليون برميل)، والأنهار الجارية والأرض الواعدة بالخير والثراء، أصبح معظم أهله فقراء، توارت الطبقة الوسطى وانضمت إلى قافلة الفقراء، وانعدمت إلى حد كبير الخدمات الصحية والتعليمية، حتى العنصر البشري المؤهل غادر معظمه وطنه بمن فيهم العلماء إلى بلاد أخرى بحثاً عن فرصة عمل وهروباً من جور المحتل ومن جاؤوا معه على ظهر الدبابة، الذين أصر بعضهم على معاقبة مواطنيهم شر عقاب. وما كشفته صحيفة «لوس انجلوس تايمز» الأميركية الاثنين الماضي عن سجون سرية تحت الأرض تديرها الحكومة في محافظة نينوى ونقل بعض نزلائها إلى بغداد ما هو إلا مثال حي يضاف إلى فضيحة السجون السرية عام 2005 التي أنشأتها الحكومة العراقية لتعذيب المواطنين العراقيين وقهرهم لتمثل وصمة عار لهذه الحكومة التي يطلق عليها (وطنية). المحصلة أن العراق اليوم وبعد سنوات سبع عجاف قتل فيها من قتل من العراقيين، وجرح من جرح وهاجر من هاجر ودمر ما دمر ونهب ما نهب، حقق فيه المحتل ما أراد بسطوه على النفط، وحقق لإسرائيل ما لم تكن تحلم به بتحطيم النظام الذي كان مصدر قلق لها. وعلى الجانب الآخر حقق لطهران فرصة ذهبية كانت تحلم بها لزمن طويل، فأصبحت لها ذراع قوية في بلاد الرافدين حتى إنها تعد المحتل الحقيقي لهذا البلد الذي طالما أوقفها عند حدها لعقود طويلة. وهكذا فان الخاسر الحقيقي هم أهل العراق الذين زرع بينهم المحتلون بذور الفتنة والتمزق والفقر والبؤس والعوز والبطالة والفساد، وتركزت الثروة في أيدي حفنة قليلة جاء بها المحتل الذي أكل الكعكة الكبيرة، ونالت شركات نفطه الكبرى عقوداً نفطية كانت تنتظرها لزمن طويل، وأبقت الفتات لشركات نفط صينية وماليزية لذر الرماد في العيون! أما العرب فقد خسروا عمقاً استراتيجياً لا يدانى في أهميته، وخسروا عضداً قوياً كان شوكة في حلق إسرائيل وإيران لعقود عدة، فانكشف العمق الامني للعرب في واحدة من أهم الدول العربية، وكذلك في الجوانب الاستراتيجية والاقتصادية والنفطية، وهذا هو نتاج الضعف وعدم امتلاك القوة والتشتت والتشرذم والتمزق، ويبقى الجرح نازفاً إلى أمد لا يعلمه إلا الله بعد مضي سبع سنوات عجاف على سقوط عاصمة الرشيد. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية.