وصف شاعر سوري قبل أيام مدينة أربيل في كردستان والتي زارها الشاعر والمفكر السوري أدونيس في الفترة الأخيرة ب»المحمية الأميركية»، ووصف بالمقابل أدونيس بحفيد المتنبي. وفي هذا الوصف الثاني إستخدام مجازي مقلوب، يُقصد به أدونيس كحفيد ضال وخائن. ذاك انه زار المنطقة المحرّمة وفق مقاسات القومية المتخيلة عربياً. وقبل نصف عقد وصف أحد الكتاب العرب المعروفين الوعي الكردي بأنه شكل من أشكال المحاكاة للوعي الصهيوني. وبين هذا وذاك، علاقة عضوية تتشكل بمقتضاها صورة الأكراد في الوعي العربي. وتالياً، في ذات السياق تندرج زيارة أدونيس إلى كردستان حيث يبدو الحضور إلى أربيل أو السليمانية (وبغداد ضمناً) وسيلة للإنتقاص من العرب. ذاك انها فتحت المجال لقول ما لا تستسيغه الأذهان. ان تسمية «المحمية الأميركية» ليست بجديدة في الثقافة العربية ويرجع تاريخ نحتها في اللغة السياسية العربية إلى 1991 حين فرض مجلس الأمن الدولي قيوداً على تحركات الجيش العراقي لحماية المدنيين الأكراد من بطش النظام السابق. أما نعت الخائن، فقديم قدم السياسة العربية المعاصرة، إنما هي ترتبط، في سياقها المتصل بالمسألة الكردية، بذات التاريخ الذي أسس فيه المجتمع الدولي «محميات» لمنع حصول مجازر أخرى شبيهة بالأنفال. وفي هذا طرائف وعجائب: ذاك ان «الخائن» الأول للثقافة العربية في تلك الفترة كان الشاعر العراقي سعدي يوسف الذي زار كردستان بعد تحريرها من نظام البعث وكتب نصاً نثرياً نشرته جريدة «طريق الشعب» التابعة للحزب الشيوعي العراقي بعنوان «الطريق إلى كردستان». وحين عاد الشاعر إلى سورية نعته المثقفون السوريون بصفات كثيرة ومتعددة بدت فيها الخيانة مقاساً وحيداً تقاس به زيارته إلى كردستان. اليوم، تختلف الأدوار ويمثل سعدي يوسف دور الشيوعي والوطني الأخير ويعبّد الطريق أمام الكتاب العرب لتخوين أدونيس وإدراج ما قاله أمام الجمهور الكردي في خانة «القول الضار». ذاك ان أدونيس انتقد الحضارة العربية وقال ما لم يقله الآخرون، والتقى فوق ذلك بالرئيس العراقي جلال الطالباني. كما انه فتح باب سجال تريده الغالبية العربية من المثقفين مغلقاً ومشمعاً بالأحمر، وهو باب الحضارة بالشكل الذي تقتضيه الحياة المعاصرة. وما زاد الطين بلة، في ذهنية تلك الأوساط العربية التي استنكرت حضور الشاعر إلى كردستان، أنه فتح ذلك النقاش في مكان محرّم وهو كردستان. فلو جرى النقاش عن الحضارة العربية وقال ما قاله في مكان آخر مثل بيروت أو دمشق أو أية مدينة عربية أخرى لاختلف الأمر وابتعد تالياً عن عنصرية ترتجل ذاتها في ما خص الأكراد، ليس في السياسة فحسب بل في الثقافة والفكر أيضاً. تفادياً لعنصرية مضادة ولحصر مجمل النقاش في صورة كردستان لدى الوعي العربي، يجدر بنا هنا الحديث عن إمكانات توسيع دائرة سؤال الكاتب حول الحرية التي لم ترتق إلى مستوى التفكير اليومي في الثقافة العربية. فهو – أدونيس - أشار إلى إنقراض الحضارة العربية في سياق ذات السؤال وذات الفكرة فقال بأن «جميع الحضارات الكبرى في التاريخ انقرضت من السومريين الى البابليين والفرعونيين، بمعنى ان الطاقة الخلاقة عندهم انتهت، اكتملت دورة الابداع ولذا فانهم ينقرضون بحيث لم يعد لهم حضور خلاق في الثقافة الحديثة الكونية». وفي جانب آخر من الكلام ذاته قال إن المجتمع العربي يفتقر الى الثقافة المستقلة الحرة ونحن نختبر بأنفسنا ونرى كيف تكون القضايا الثقافية عندنا. ونخطئ كثيرا عندما نقارن اوضاعنا الثقافية بأوضاع الغرب». في موازاة هذا الكلام عن الثقافة العربية وافتقادها للحرية والإبداع، لم يمدح أدونيس الثقافة الكردية ومثقفيها، بل حذرهم من ان تصيبهم العدوى التي أصابت العرب. إنما لم يمنعه ذلك من الإشادة بالهامش الذي مُنح لحرية التعبير في كردستان حيث بات بالإمكان الحديث عن الجنس والدين والسلطة أمام الجمهور بالشكل الذي يراه الكاتب مناسباً، بينما فُصل مدير المكتبة الوطنية في الجزائر بسبب محاضرة له. ويقول أدونيس في حوار أجرته معه صحيفة «الصباح» البغدادية: لماذا في هذه القاعة نتحدث عن الجنس بحريّة، ونتحدث عن الدين وعن مشكلات الثقافة بنفس الحرية؟ لم لا نرى هذه الحريّة في بلدان عربية أخرى؟ هذا واقع فلما نغيب عنه؟ لماذا أستطيع أن أقول هنا ما لا أستطيع أن أقوله في مكان آخر؟ نعم قلته في الجزائر مثلاً فما كانت النتيجة؟ طُرِدَ رئيس المكتبة الوطنية الذي دعاني إلى أن أقول ما قلته، لدرجة اني أحسست بأني مجرم. لماذا لم يقف «الشيوعي الأخير» ضد ذلك الموقف الحكومي الذي يعتبر إنتقاصاً للثقافة والفكر العربيين؟ لماذا سكت «الشاعر السوري» عن ذلك الإنتهاك الواضح لحرية التعبير؟ لماذا تضع الغالبية العظمى من المثقفين والرافضين ل «عراق بلا صدام» لاصقاً على آذانهم حين يكون الحديث عن الحرية في محميات الإستبداد في العالم العربي، بينما يُرفع اللاصق تُكمّ به أفواه الذين يريدون التكلم عن العراق كما يجب؟. ما على أدونيس في كل ذلك سوى الضحك مما قيل وكتب عن زياراته إلى كردستان، هو الذي أضحكته طرائف عراقية عن معاناة يومية تلت مرحلة الخلاص من النظام التوتاليتاري البعثي، رواها له الكتاب والصحافيون العراقيون الذين جاؤوا من بغداد للقائه في السليمانية. ففي الحوار ذاته الذي أجرته مع أدونيس صحيفة «الصباح»، يقول له الشاعر العراقي ماجد مجود عن الحرية المتوفرة في العراق: ان النظام السابق كان يضع لاصقاً على أفواه الكتّاب وفي الوقت الحالي رفع سياسيونا هذا اللاصق من على أفواهنا ووضعوه على آذانهم. ويضحك أدونيس كثيراً لهذا الوصف البسيط لحالة الحرية في العراق. وقد جرى بين الصحافيين الأربعة الذين جاؤوا من بغداد وبين الشاعر حوار عن الميليشيات والأحزاب الدينية والسياسيين الجدد، ودار الكلام بصراحة تامة ولم يُحذف ما قاله أدونيس، كما لم يُطرَد أحد من الصحافيين، رغم ان الصحيفة المذكورة شبه حكومية. زيارة أدونيس إلى العراق فتحت الباب أمام سؤال الحرية والإبداع بالنسبة الى العراقيين كرداً وعرباً، بينما تحولت في الأوساط العربية إلى حديث عن الخيانات!. * كاتب كردي مقيم في كندا.