باكراً، في ثلاثينات القرن العشرين، شاهد ألفريد هتشكوك مسرحية بوليسية ذات طابع ديني عنوانها «ضميرانا». لم تكن مسرحية كبيرة، ولم يكن مؤلفها من الكتّاب المرموقين. ومع هذا، لسبب لم يتضح تماماً بالنسبة الى ألفريد هتشكوك، في ذلك الحين، علقت المسرحية في رأسه، وظل يفكر بأن لا بد له، ذات يوم، من ان يحولها الى فيلم سينمائي. والغريب ان هتشكوك حين أفلم اخيراً، عام 1953، هذه المسرحية تحت عنوان «إني أعترف» تمكن من ان يفتح ديكورها المغلق، على عالم صاخب من المناظر الطبيعية التي قدم فيها، وربما للمرة الأولى في تاريخ السينما الشعبية الهوليوودية، منطقة كويبك الكندية الناطقة بالفرنسية. قبل ذلك كان كثر يسمعون بتلك المنطقة، ويعرفون ان فيها لوحات طبيعية رائعة الحسن، وكذلك مشاهد مدينية ساحرة في «كويبك سيتي»، غير ان قلة من الناس كانت تعرف المدينة بصرياً، حتى كان فيلم هتشكوك الذي حمل عنوان «إني أعترف»، الفيلم الذي تعمّد فيه المخرج الكبير ان يخرج بالشخصيات من الأماكن الداخلية (كنيسة، محكمة، دائرة تحقيق، وبعض الغرف) الى رحابة المدينة وانفتاحها على سماء تصحو أحياناً وتظلم احياناً أخرى، وفي كل الأحوال عرف المخرج كيف يستغل تقلباتها لمصلحته. ومع هذا، لسنا هنا امام فيلم مغامرات أو مطاردات، بل امام عمل حميم، قليل الشخصيات، وكان يفترض به أصلاً، بناء على كونه مأخوذاً من مسرحية، أن يكون فيلماً ثرثاراً، لكنه أتى فيلماً بصرياً. ولم يكن هذا غريباً من جانب مخرج كان يحلو له ان يقول دائماً ان الفيلم السيئ هو صورة تقدم الناس يتكلمون، أما الفيلم الجيد فهو صورة تقدم الناس وهم يفكرون. ولعل اختيار هتشكوك لمونتغمري كليفت لبطولة الفيلم، يترجم هذا الأمر، فهذا النجم الكبير، الذي كان مثّل مارلون براندو وبول نيومان، وغيرهما، من أنجب تلامذة استوديو الممثل، كان يمثل بنظراته وصمته، أكثر مما يمثل بكلامه وحركته. كان متشرباً تماماً منهج ستانسلافسكي، لذا لم يكن ثمة أدنى شك في ان هتشكوك بنى الشخصية (مع كاتب السيناريو جورج تابوري) وهو يفكر فيه. إذ ان دوره في الفيلم هو دور القس لوغان، الذي يتهم بجريمة لم يرتكبها. جريمة يعرف هو من ارتكبها، لأن هذا اعترف امامه بالأمر، في الكنيسة، لكن القس لا يمكنه ان يخرق قانون الصمت الكنسي ولو لتبرئة نفسه. واضح ان هذا الدور كان يهيئ كليفت لأداء صامت، يقول كل شيء في تعابير الوجه ولا سيما النظرات. ولكن قبل ان نواصل الحديث عن الفيلم، قد يكون من الضروري التوقف عند الظروف التي أحاطت بإنتاجه. فهتشكوك حققه في كندا وليس في هوليوود، وربما لأسباب تتعلق بأن حكومة مقاطعة كويبك كانت بدأت سياسة ترويج تستقطب الاستثمارات والسياح الأميركيين، فيما كانت الولاياتالمتحدة تعيش أكثر لحظات الماكارثية والحرب الكورية وبدايات الحرب الباردة، ظلاماً. ولعل محدودية الإنتاج هي التي جعلت مخرجنا يحقق فيلماً متقشفاً، من الناحية التعبيرية والإنتاجية، معتقداً ان خروج كاميراه الى الشارع والمشاهد الطبيعية، سيكون كفيلاً بإرضاء المتفرجين... غير ان هؤلاء لم يرضوا، ولم يستسيغوا فيلماً هادئاً حميمياً، يقوم جوهر موضوعه على حبكة ذات علاقة مباشرة بالدين، حتى وإن كان فيلماً بوليسياً تشويقياً. من هنا ما قاله هتشكوك بعد ان بدأ عرض الفيلم: «ما كان ينبغي عليّ أن أحقق هذا الفيلم!»، ولعل هتشكوك كان يعني انه كان في إمكانه ان يحقق فيلماً يستفيد أكثر من الطبيعة الكوبيكية الرائعة، ومن كون المتفرج فيه يكتشف مناطق جديدة من العالم. ولكن لاحقاً، كان من الواضح ان هتشكوك رضي أخيراً عن فيلمه وخفّ ندمه على تحقيقه. إذ، بعد ان نُسيت ظروف الإنتاج، بقي من الفيلم موضوعه الدقيق وحبكته وقوة التمثيل فيه. وكذلك صوابية النهاية. فعمّ يتحدث «إني أعترف» بعد هذا كله؟ عن جريمة. كما هي الحال في معظم افلام سيد التشويق في السينما العالمية. وهذه الجريمة نعرف نحن المتفرجين، ومنذ البداية من هو ضحيتها ومن هو مرتكبها. لكن المفتش الذي يحقق فيها (لارو) لا يريد ان يعرف حتى ولو تضافرت الظروف لجعله يعرف. ومن هنا، يلح هتشكوك منذ البداية على ان المفتش لا يريد سوى تجريم الرجل الخطأ. اي القس. المفتش لا يهتم بالقاتل الحقيقي، وهو المدعو كيلر الذي كان اعترف امام القس بأنه قتل المحامي فيليت على سبيل الخطأ فيما كان لا يريد، أول الأمر، سوى سرقته. لكن المفتش لا يريد ان يهتم بكيلر. من يهمه هو القس. أولاً لأن ثمة شيئاً من التشابه بين كيلر والقس. ولأن القاتل «الخفي» بعد ارتكاب جريمته في بيت فيليت، شوهد يتوجه الى الكنيسة، حيث يعيش القس. طبعاً لا يمكن هذا ان يكون دليلاً. فماذا حين يكتشف المحقق ان لوغان (القس) وفيليت (المحامي القتيل) كانا يعرفان بعضهما بعضاً منذ زمن بعيد. بل ان بينهما خصومة وعملية ابتزاز تدور حول امرأة! المشكلة هنا مشكلتان، تضافان الى رغبة المحقق في تجريم لوغان، بأي ثمن كان: ان القس الذي يعرف الآن تماماً ان كيلر هو القاتل لا يمكنه ان يبوح بسر اعتراف أودع لديه، بحسب قوانين الكنيسة كما قلنا. اما الشخص الوحيد الذي يمكنه ان يشهد امام المحكمة ان القس لوغان كان معه ساعة ارتُكبت الجريمة، فهو روث، المرأة الحسناء المتزوجة، والتي كان القس على علاقة غرامية بها، قبل سيامته قساً، ثم حين تزوجت واصلت الى حين علاقتها مع لوغان، وهو أمر يعرفه المحامي فيليت، وجعله محوراً لعملية ابتزاز طويلة عريضة، لن يتخلص لوغان وروث منها إلا بمقتل المحامي. والمحامي قتل الآن. وها هو الماضي ينكشف للمحقق، ولكن ليس بما في ذلك الجزء المتعلق بالعلاقة بين لوغان وروث. وهكذا يجد الفيلم نفسه امام هذه الدوامة، البوليسية، الدينية والأخلاقية. ويكاد القس لوغان يجرم ويضيع فيما القاتل فالت من يد العدالة. فما العمل؟ إن السيناريو لا يحل المشكلة هنا بالطريقة التي يمكن ان تبدو منطقية. فبعد كل شيء هتشكوك كاثوليكي لا يمكنه ان يغامر بجعل القس في فيلمه يكشف سر الاعتراف، وهو أخلاقي وطيب الى درجة لا يمكنه معها ان يدفع المرأة الى ان تكشف ان القس كان معها حين وقعت الجريمة. ومن هنا، عند نهاية الفيلم وإذ لأسباب متنوعة، وإنما ليست جوهرية، يقرر المحلفون ان القس لوغان، في رأيهم، «غير مذنب»، ويطلق القاضي سراحه، لا يرضى الجمهور بهذا الحكم، وهكذا، فيما القس لوغان يخرج ويصل الى درج المحكمة يتجمع الناس من حوله ويروحون شاتمين إياه، ما يعني ان سمعته كقسيس انهارت، تشمئز السيدة كيلر زوجة القاتل مما يحدث للقسيس الذي تعرفه جيداً وتحبه جيداً، وتعرف انه بريء، وترى بحسها الشعبي المسيحي الحقيقي، ان حكم المحكمة على شخص ما بأنه مذنب، وحتى إعدامه من جراء ذلك، جسدياً (ما يجعله شهيداً بالمعنى الديني للكلمة) يظل أهون ألف مرة من حكم الناس عليه، لأن هذا هو الموت الحقيقي، الموت من دون فداء أو استشهاد. السيدة كيلر هذه، تحقق العدالة الشعبية بنفسها: إنها تصرخ امام الجموع وأمام رجال الشرطة وأمام القس الصامت الحزين، بأن زوجها هو القاتل الحقيقي، فلا يكون من كيلر هذا إلا ان يسحب مسدساً ويردي به زوجته املاً في إسكاتها، وهو حين يركض هارباً إذ يدرك ان الجميع سمع ما قالته ورأى ما فعله بها، يحيط به رجال الشرطة عند ابتداء المشهد الأخير الذي يقوم على سلسلة من المفاجآت وردود الفعل وسوء التفاهم الذي يجعل القاتل يعتقد ان القس لوغان أفشى سر الاعتراف - وهو لم يفعل بالطبع. ومن هنا يحاول القاتل إطلاق النار على القسيس، لكنه يفشل. وإذ يُطلق الرصاص عليه ويقع محتضراً، يسرع القسيس نحوه للصلاة عليه. واضح هنا اننا، بعد كل شيء امام واحد من أكثر افلام هتشكوك كاثوليكية، هو الذي هيمن الفكر الكاثوليكي دائماً على أفلامه، وإن في صورة غير مباشرة. وألفريد هتشكوك، كان أحد أكبر سينمائيي العالم، بأفلامه التي أربى عددها على الخمسين فيلماً، صوّر أولها في وطنه الأصلي انكلترا ثم في اميركا قبل ان يعود ردحاً الى إنكلترا، ليعود نهائياً الى اميركا بعد ذلك. ومن أكثر أفلام هتشكوك شعبية: «غريبان في قطار»، «النافذة الخلفية»، «العصافير»، «بسايكو»... [email protected]