أن تأتي شابة من أستراليا الى لبنان إثر مشاهدتها حواراً تلفزيونياً لأجل حضور حفلة موسيقية فهذا ليس فقط دليلاً على مدى تأثير التلفزيون في الناس، بل أيضاً على فرادة الفنان الذي تقلص موسيقاه المسافات بين المدن وتدفع عشاق فنه ومحبيه الى عبور آلاف الكيلومترات الجوية لأجل ساعة أو ساعتين من الموسيقى الشافية. الشابة اللبنانية المقيمة خلف المحيط كانت عازمة على المجيء الى وطنها الأم في الصيف المقبل، لكنها وإثر مشاهدتها المبدع ظافر يوسف ضيفاً في برنامج «خليك بالبيت» حزمت حقائبها وشدت الرحال نحو بيروت قبيل الثامن عشر من نيسان (ابريل) موعد أمسية يوسف في «الميوزيك هول» وسط العاصمة اللبنانية، هذه الأمسية التي شهدت اقبالاً عارماً دفع منظميها الى اتباعها بأمسية أخرى لم تكن مقررة، استقطبت أيضاً المزيد من عشاق الفن الحقيقي الذي يجعل الحياة أخف وطأة. حالة أخرى تشهد على ما تفعله موسيقى ظافر يوسف بسامعيها : في الطريق من بيروت الى صيدا كان يرافقني أحد الأصدقاء ممن يعملون في مجال بعيد جداً من الفن وحالاته وأمزجته، ولا تربطه بالموسيقى علاقة حميمة اللهم إلا تلك المصحوبة بالغناء، وكان « سي دي « ظافر ثالثنا في تلك العصارى الربيعية، وكانت موسيقاه وآهاته وتنغيماته أو « تصويتاته» تزيد الربيع ربيعاً وتوسع المدى البحري الذي يصل بين مدينتين ساحليتين، فيما كان ما يبدعه يوسف ساحلاً آخر تنكسر عنده أمواج، وتلمع رمال، وتلين يابسة، وتشتعل مياه وترفرف ارواح وتحلق أفئدة. لم تمض لحظات على انطلاق السيارة بنا براً، وانطلاق موسيقى يوسف بنا نحو الأعالي المصفاة من شوائب الدنيا وأدرانها حتى التفت نحوي صاحبي الذي لم يعتد سماع الموسيقى إلا مصحوبة بأصوات المطربين سائلاً عن صاحب ما يسمعه مضيفاً : إنها موسيقى تصفي النفس من متاعبها ومشاغلها، طالباً نسخة منها ليواظب على سماعها منذ تلك الرحلة الصغيرة بين مدينتين. وموسيقى ظافر يوسف التي تقلص المسافات بين المدن سواء كانت متجاورة مثل بيروت وصيدا أو متباعدة مثل بيروت وسيدني، هي علاج حقيقي لأنها تحمل سامعها الى عالم آخر أكثر صفاء ونقاء وإلى حالات روحية شافية، وتحرضه على البحث عن مكامن الحب والفرح في النفس البشرية وفي وقائع الحياة اليومية. ولعل أكثر ما يميز تلك الموسيقى أنها تمزج بين أقصى الصفاء الروحي وأقصى الرغبات الحسية، الأعالي الفردوسية والكوامن الجحيمية، المقدس والمدنس، الملائكي والشهواني، وثنائيات اخرى كثيرة وأضداد تجتمع في ما يبدعه ذاك التونسي الطالع من الإنشاد الديني الى «الجاز النيويوركي» وبينهما عوالم موسيقية ثرية ومتنوعة تمتد من بياض إسكندنافيا وطمأنينة ثلوجها الى سمرة افريقيا وخضرة غاباتها وصخب إيقاعاتها مصحوبة بقلق الشرق وأسئلته العميقة! «الى صديقي الفوري». هذا ما كتبته على أحد دواويني إهداءً الى ظافر في أول لقاء لنا، وبالفعل فإن صداقةً فورية وعميقة نشأت بيننا مسبوقةً بصداقة بيني وبين موسيقاه منذ أن أهداني صديق آخر مبدع آخر هو مارسيل خليفة «سي دي» يوسف لسماعه (وهذا نادر بين أهل الفن، أن يهدي فنان أصدقاءه اعمالاً لفنان سواه)، وهل اجمل من صداقة تشد أواصرها الموسيقى والشعر و «ملح الجمال»؟ اعرف، لم أكتب عن موسيقاه بمقدار ما كتبت عنه، أو لعلي لم أمعن في موسيقاه شرحاً وتحليلاً، وذلك أنني من المؤمنين بأن الموسيقى ليست بالضرورة أن تفهم، بل الأهم أن تحس وتعاش. أكتب عن صديق فوري ودائم، وأترك للباحثين عن شفاء ما أن يذهبوا فوراً الى موسيقاه!