إن مما لا شك فيه أن القارة الأفريقية هي أكثر المناطق في العالم تضرراً من الأزمة العالمية الحالية، وهي المرشحة أكثر من غيرها من مناطق العالم، لتفاقم الأضرار الناتجة من هذه الأزمة. وهي إلى ذلك، القارة التي تعاني مشكلات متراكمة عبر عقود من السنين، والتي تتهددها أزمات مستفحلة لم تنته الجهود الدولية والإقليمية المبذولة لحلها، إلى نتيجة مرضية. وبذلك تكون القارة السمراء، في ظل هذه الأزمة، تسير في حلقة مفرغة، وتنطوي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في غالبية الدول الأفريقية، على مخاطر لا تهدد الأمن الإقليمي الأفريقي فحسب، بل تهدد الأمن والسلم في العالم. وإن انتشار المجاعة والكوارث الطبيعية في القارة الإفريقية، هو مما يؤدي إلى هجرة المواطنين من بلدانهم في شكل زاد من تفاقم مأساة إنسانية مهولة تتمثل في تصاعد موجة اللاجئين الأفارقة في شكل كبير، مما يضاعف من تداعيات الأزمة. وتتزايد المنازعات الإقليمية بسبب الدول الأفريقية التي ورثت حدوداً مصطنعة عن قوى الاستعمار الأوروبي، وهذا يؤدي إلى نشوب حروب أهلية وإقليمية، تضعف القارة، وتؤثر في مناعتها السياسية والاجتماعية، وفي تعطيل قدراتها الاقتصادية على نحو بالغ الخطورة. لكل هذه الاعتبارات تواجه القارة الأفريقية اليوم تحديات شديدة الخطورة، بدءاً بقضايا الصحة ومكافحة الأوبئة والأمراض السارية كالملاريا والسل وفيروس نقص المناعة البشرية، ثم بالقضايا السياسية والصراعات والمسائل القانونية المرتبطة بها، وانتهاء بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية وتعثر الجهود المبذولة في رفع مستوى معيشة الملايين من الأفارقة الفقراء الأميين، إضافة إلى مشاكل المجاعات المتكررة، وقضايا البيئة ومشاكلها من تصحر وجفاف وتلوث وغيرها. وإن من أخطر الأزمات التي ستواجه أفريقيا في الفترة المقبلة، تفشي فيروس نقص المناعة البشرية؛ فجنوب الصحراء الأفريقية الكبرى، وخصوصاً الجنوب الأفريقي، يعد أكثر المناطق المتضررة بالوباء في العالم، حيث بدأت العدوى في إزهاق ملايين الأرواح أكثر من ذي قبل. وقد أثرت الأزمة المالية العالمية سلباً في اقتصاد أفريقيا بطرق عدة، حيث انخفض الطلب على الصادرات الأفريقية، وتراجع تدفق الاستثمارات، وانخفضت إيرادات الحكومات في شكل حاد. ونظراً إلى انسداد الآفاق بالنسبة الى الاقتصادات الأفريقية، قامت غالبية الدول الأفريقية بتحسين إدارة الاقتصاد الكلي من خلال إجراء إصلاحات على مدى السنوات القليلة الماضية، مما ساعدها في التخفيف من آثار الأزمة. وقد جاء في تقرير عن أفريقيا جنوب الصحراء صدر عن صندوق النقد الدولي في نيسان من العام الماضي، أن النمو في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء من المتوقع أن يصل إلى 1.5 في المئة عام 2010، قبل أن ينتعش ليصل إلى أقل من أربعة في المئة بقليل في العام المقبل. وتدل هذه التوقعات على تباطؤ حاد في النمو مقارنة بعام 2008، وعلى تعديل بالانخفاض عن التوقعات التي صدرت في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. لقد كانت للأزمة المالية العالمية التي نشبت في أعقاب أزمتي الغذاء والوقود في عامي 2007 و2008، آثار سلبية حادة على البلدان الأفريقية اتخذت شكل تراجع أسعار السلع الأولية وعائدات السياحة والصادرات وتحويلات المغتربين وتدفقات رؤوس الأموال الخاصة. وبحسب تقرير للبنك الدولي، فقد هبطت تحويلات المغتربين إلى المنطقة والتي كانت تصل إلى 20 مليار دولار سنوياً قبل الأزمة المالية، بنسبة تتراوح بين 4 و8 في المئة لتُحدث ضرراً بالغاً ببلدان مثل ليسوتو، حيث كانت هذه التحويلات تشكل 29 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وانخفضت تدفقات رؤوس الأموال الخاصة بنسبة 40 في المئة في النصف الثاني من السنة المالية 2009، بعدما قفزت إلى 53 مليار دولار عام 2007، وكانت تمول مشروعات البنية التحتية المطلوبة بشدة والاستثمارات في مجال السلع الأولية. وتبرز تقارير البنك الدولي أن خطى النمو في أفريقيا - وهو عامل أساس في تقليص الفقر - كانت قد تسارعت بفضل تحسن السياسات على مستوى الاقتصاد الكلي، والأسعار المواتية للسلع الأولية، والزيادة الكبيرة في المعونات وتدفقات رؤوس الأموال وتحويلات المغتربين. واقترن بهذا الأداء الاقتصادي أيضاً، تحسنُ نظم الإدارة العامة وارتفاع مستويات المساءلة. وحققت القارة تقدماً في تقليص حدة الفقر وتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، بحيث هبطت نسبة الأفارقة الذين يعيشون على أقل من 1.25 دولار يومياً، من 58 في المئة عام 1996 إلى 50 في المئة في الربع الأول من عام 2009. واستقر معدل انتشار الإصابة بالإيدز، وزادت نسبة الالتحاق بالمدارس الابتدائية، وتحقق تقدم في المجالات الأخرى للتنمية البشرية. ولكن ساءت الأحوال في غالبية الدول الأفريقية في نهاية السنة الماضية وبداية السنة الحالية، على نحو يدق ناقوس الخطر، بسبب من المشاكل المتراكمة التي لم تعالج بالمنهج الرشيد. وكان مؤتمر القمة الأخير للاتحاد الأفريقي، قد أكد في قرار له في شأن الاستجابة للأزمة المالية والاقتصادية العالمية، ضرورة تحقيق البلدان الأفريقية الأهداف الإنمائية للألفية في الموعد المحدد لعام 2015، ودعا إلى أن يتم بصورة قوية وفي حينه، تجديد موارد صندوق التنمية الأفريقي والمؤسسة الإنمائية الدولية خلال دورتي التجديد الثانية عشرة والسادسة عشرة على التوالي، والتبكير بزيادة رأس المال العام للمؤسستين حتى يتسنى لهما، من بين أمور أخرى، دعم البلدان الأفريقية ذات الدخل المنخفض. وهذا الموقف من الاتحاد الأفريقي هو التزام سياسي في حاجة إلى تنفيذ حازم لا بد من أن تتوافر له الظروف الملائمة، ونداء موجّه بالخصوص إلى الدول الأكثر تضرراً بالأزمة العالمية، لمراجعة سياساتها وللتقيد بالالتزامات الدولية من أجل الإصلاح والتقويم واعتماد الحكم الرشيد والشفافية للتغلب على الأزمات. إن من انشغالات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) في هذه المرحلة، توفير الدعم للدول الأفريقية الأعضاء لتعزيز قدراتها في مجالات التربية والعلوم والثقافة والاتصال. ولكن إمكانات الإيسيسكو محدودة، ولذلك فهي تشترك مع عدد من المنظمات الدولية، وبخاصة اليونسكو والمنظمة الدولية للفرانكفونية وجمعية الدعوة الإسلامية العالمية وغيرها، في تنفيذ أنشطة في الدول الأفريقية الأعضاء، تخدم أهداف التنمية التربوية والعلمية والثقافية والاتصالية. وعلى رغم النتائج الطيبة التي تسفر عنها جهود الإيسيسكو في هذا المجال، إلاَّ أن الأعباء كبيرة، والتحديات ضخمة، ومتطلبات الدعم للسياسات الوطنية في مجال اختصاص الإيسيسكو فوق طاقتها. ولذلك فإنه يتعين على المجتمع الدولي أن يعمل على تضافر جهوده لإنقاذ أفريقيا من الأزمة الكبرى التي تواجهها. ومما لا شك فيه أن حكومات العالم والمنظمات الدولية والإقليمية، مدعوة بإلحاح للمبادرة بتقديم الدعم اللازم والسريع للقارة الأفريقية، لإنقاذها من المخاطر التي تتهددها، وذلك من خلال الرفع من المعونات والمساعدات المالية وخفض الديون المستحقة أو إلغائها، مع تشديد الرقابة على إنفاق الأموال وتشجيع الدول الأفريقية التي تعاني من الأزمة على الإصلاح السياسي والاقتصادي واعتماد نظام الحكم الرشيد والشفافية. فهذا هو المدخل إلى تحقيق نهضة أفريقيا وتطورها. المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو.