فتح الباب وأطل وجه ما توقعت أن أراه. قالت: مش مبكر؟ أجبتها وعيناي لم تفارقا قسمات وجْهها «إنها العاشرة بحسب الموعد» «بعدني واعية، بس تفضّل فوت» قالتها بصعوبة. «لحظة، رح فوت اعمل قهوة وراجعة» سألتها «بدِّك مساعدة» ردّت «اوكّي، أذا بدك» على الجدار وفي مواجهة باب المدخل مرآة سكنها الغبار وفي الزاوية وعاء فيه بقايا نبتة شبه ميتة. دخلتُ إلى غرفة قالت انها المطبخ، الاشياء مبعثرة وهي واقفة تهز سخان الماء. «في شوية مي بيكفوا لي ولك، وبعتذر على هالمطبخ، بس بحسّو بيشبهني». كبست زر التسخين والتقطت فنجانين فغسلتهما قليلاً ووضعت بعض القهوة فيهما وانتظرت لحظات، احسست انها اطول لحظات الصباح، ثم اخذت السخان وسكبت الماء في الفنجانين وأعطتني واحداً وطلبت مني الخروج الى الشرفة. جلسنا، بدأت الحديث وأنا أكتب. لا أدري ماذا اكتب. تعيش بسمة في شقةٍ استأجرتها منذ عشرين عاماً، تعيش وحدها ولم تتزوج. تخرجت في معهد الفنون وباشرت عملها ممثلة مسرحية ثم انتقلت الى التلفزيون. غالبية اللبنانيين يعرفونها ولا يعرفونها. أصبحت الآن في الثالثة والخمسين من عمرها. أمضت سبعة وعشرين عاماً منها في التمثيل المسرحي والتلفزيوني. تخرج كل يوم، الى شرفتها وتجلس في عزلتها على كرسي عمره من عمر الازمات في لبنان، فهي تحب الاشياء القديمة. كل صباح تحاكي نفسها وتبدأ جولتها بالحديث عن ايام عزّها عندما كان الهاتف يوقظها في الصباح ولا يهدأ رنينه إلا في آخر الليل. كان هناك من يهتم بها ويتذكرها دوماً ويعرِضُ عليها النصوص ويسأل عنها ويريد لقاءها. كانت متألقة على المسرح وفي كل مسلسلاتها التلفزيونية. «نجاح باهر والأجر قليل». هذا حال الفنان عندنا، فكيف اذا كان امرأة. حزينة هي الآن، تتألم في ذاتها، دموعها تخرج بخجل. تمسحها قبل ان تصل الى اسفل خدها. ترشفُ القهوة وتنفث دخان سيجارتها الى الاعلى، فترى في ضباب الدخان حياتها تتناثر في الهواء. وبعفوية معهودة تحاول التقاط الدخان قبل ان تحمله نسمة هواء الى فضاء بيروت. تأخذ رشفة قهوة من فنجانها الذي لم يبق في ذاكرته إلا شفاه يرافقها وحيداً منذ سنين. رشفة اخرى وتجهش بالبكاء. تجمّدت يداي، كيف أكتب دموعها على اوراقي؟ قهوة الصباح وسيجارتها معبران للذاكرة. حياتُها مجموعة من الاشياء. كل النساء أحببنَ المرآة إلا بسمة، مرآتها تستفز عيونها للبكاء. رنين الهاتف يدخلها في غد تأمل بأن تستعيد فيه بعضاً من... بسمة! هل تتألم على حاضرها ام على غد ينتظرها؟ لا أعرف. برد فنجاني ولم استطع إشعال سيجارة واحدة. وجهي مسمّرٌ بها وفي تفاصيله الصغيرة استمع الى حديثها. التصقت شفتاي ببعضهما بعضاً ولم أنطق بكلمة واحدة. خرجت بعد ساعات وأنا احاكي نفسي وأستعيد اللقاء. خلف هذا الجمال والانوثة والتألق على المسرح وشاشات التلفزة هناك وجهٌ آخر كئيب كله حزن وتعاسة. إنسانة - امرأة تنبض بالحياة عملت جاهدة كي تبرز في بيئة للذكر فيها يد طولى صارعت وواجهت وساومت... وأحياناً تنازلت أمام بشاعة عقل شرقي ومأساة الانسان فيه. قالت: «لم اشعر يوماً ان الذكر نظر إليّ كإنسانة مبدعة بل كجسد لشهواته وجارية للمتعة وسلعة للتجارة». خانني القول وتخلّت عني الكلمات وأحسست بفراغ اللحظة. رجلٌ ذكر يعجز عن التصرف امام هذا المشهد، يا لخجل النص من ذكر يقول عن نفسه انه صحافيٌ وكاتبٌ مسرحي. أحسست انني اشرب آخر فنجان قهوة في حياتي وأنفخ آخر سيجارة، فمنذ ذلك اللقاء كرهت القهوة والتدخين معاً. سمعت نصها من على خشبة المسرح وقرأت صوتها في ذاكرتي كأنه الصباح الاخير. تمنيت لو ضممتها الى صدري وأشعرتها ببعض الأمان. تمنيت لو أدخل الى عينيها وأرى مطبخها كما تراه. تمنيت لو اكون على شفتيها لأبدل الكلمات وأبعث فيها روحاً جديدة. كم تمنيت لو ولدت هذه المرأة في الغرب لعلها تشرق مع شمس كل يوم حتى آخر مشوارها بدل أن تغرب مرات ومرات كل صباح. كم تمنيت ان اكون لصاً لأسرق منها ذاكرتها وأعيد ترتيب الأحداث وأن اكون وعاءً يحبس ضباب دخانها في عمر الثلاثين. كم تمنيت ان اكون دوراً في نصها تقرأني كل صباح، لعلّها تستعيد بعضاً من مسرح حياتها. كم تمنيت لو لم أعرف بسمة. * لبناني مقيم في الامارات العربية المتحدة، يعمل في مجال الهندسة. ** «أول مرة» مساحة يفردها ملحق شباب للطلاب والراغبين في الكتابة والنشر من غير المحترفين. هذه زاوية تستقبل المساهمات من صور ومقالات لا تتعدى 600 كلمة وتعنى بالشؤون الشبابية والاكاديمية مع تعريف صغير للكاتب وبلد الإقامة على العنوان التالي: [email protected]