أين كنت اليوم؟ ذهبت الى العمل احتسيت القهوة مع صديقك بعد الدوام، ثم ذهبت للتسوق، قبل أن تعود إلى المنزل. هذه تفاصيل ومعلومات لم تعد حقاً حصرياً لك، خصوصاً أن الشارع الذي تمشي فيه والباص والقطار الذي تستقله كناية عن غابة من أجهزة الدائرة التلفزيونية المغلقة أو كاميرات «سي سي تي في»، كما تُعرف في المملكة المتحدة حيث يُصادف المواطن العادي يومياً حوالى 400 كاميرا مراقبة. هذه الكاميرات تسجل حركته بالكامل في الباصات والشوارع والمباني والقطارات والمحطات وسيارات الأجرة ... تلاحقه حتى باب منزله. ففي حال قدمت شكوى مثلاً ضد سائق باص أساء معاملتك، يمكن للشرطة أن تستعيد مشاهد مسجلة في واحدة من أربعة ملايين كاميرا ونيف (خُمس كاميرات المراقبة في العالم) تنتشر في أنحاء المملكة المتحدة. قد يكون هذا الخيار مريحاً لكثيرين، خصوصاً لضحايا الجريمة، إلا أن هناك من يرون فيه انتهاكاً مرعباً لحياتهم الخاصة. وليس هذا الشعور مستغرباً في بلد يتباهى بريادته في الحقوق المدنية، وبكونه موطن جورج أورويل. ومن المفارقة أن أورويل نفسه تحدث في كتابه 1984 عن كاميرات مراقبة في منازل موصولة بمقر الحزب الحاكم بهدف السيطرة على الجماهير. إلا أن هذه العين الساهرة لحكومة «الأخ الأكبر»، كما يسميها أورويل، باتت أكثر شيوعاً في بريطانيا من غيرها من الدول وبينها الشيوعية (المملكة المتحدة تملك مرة ونصف عدد الكاميرات في الصين مثلاً). هذا الانتشار المدعوم حكومياً لا يخلو من الجدل، ولا سيما حديث المنظمات الحقوقية عن انتهاكه خصوصيات المواطنين وحقوقهم المدنية. ويزيد هذا الجدل حدة الانقسام حيال نفع هذه التقنية في مكافحة الإرهاب والجريمة. فمن جهة، ظهرت فوائد انتشار هذه الأجهزة جلية في أعقاب تفجيرات لندن في الخامس من تموز (يوليو) عام 2005، عندما سجلت كاميرات المراقبة صور الانتحاريين الأربعة وهم يدخلون الى المحطة الرئيسة، وهو ما ساعد المحققين على كشف هوياتهم وتفاصيل خطتهم. لكن دراسات بريطانية، بعضها رسمي، أظهرت خلال السنتين الماضيتين أن استخدام هذه الأجهزة لم يساعد في شكل كبير على خفض الجريمة. كما أنها ساعدت في حل ثلاثة في المئة فقط من السرقات في الشوارع حيث تنتشر الكاميرات في شكل كثيف. تدعم هذه الدراسات موقف المنظمات الحقوقية من كاميرات المراقبة، وتحديداً قولها إن وجودها أدى الى تكيّف الجرائم معها، وليس لخفضها، كما كانت الحكومة تأمل من انفاق بلايين الجنيهات على شرائها. مخاوف وتحذيرات المنظمات الحقوقية في موضوع الكاميرات نابع على الأرجح مما هو قادم، أكثر من الوضع القائم. فهذه الأجهزة ليست سوى البداية في سياق خطة حكومية واسعة وتوسعية تشمل اقامة بنك عن بيانات الحمض النووي للمواطنين وإصدار بطاقات هوية خاصة مثيرة للجدل. مثار هذا الجدل هو أن حصول المواطنين على بطاقات الهوية سيتطلب عشر بصمات وإجراء مسح (بتقينة أشعة متقدمة) للوجه وقزحية العين وتفاصيل عن أماكن اقامة جميع المقيمين السابقة والحالية داخل المملكة المتحدة وخارجها، وكثير غيرها من المعلومات الشخصية. إضافة إلى ذلك، هناك مخاوف من التطورات المرتقبة في صناعة كاميرات المراقبة، وإمكان اصدار نماذج ذكية منها يمكنها تحليل المحتوى (المشاهد التي تسجلها)، ما قد يتيح برمجتها لإطلاق انذار في حالات معينة. وبالتالي تتحول الى رقيب فعلي يمكنه فرض قيود على الحركة. وما يزيد من انكشاف المرء، دخول أجهزة الأمن بداعي مكافحة الجريمة شبكات التواصل الاجتماعي على الإنترنت، واعتراض الرسائل الإلكترونية وغيرها من أدوات المراقبة. كل ما سبق يرسم صورة مرعبة لما آلت اليه خصوصية المواطن الذي يمكن أن يطلع رجل الأمن على أيامه وتفاصيل حياته بقليل من الجهد، كما لو كان يشاهد أحد البرامج الواقعية على التلفزيون. المشكلة هي أن خيطاً رفيعاً يفصل بين انتهاك الحقوق المدنية للمواطن والحفاظ على أمنه، لكن بالنسبة للمنظمات الحقوقية، فإن الخطط الحكومية المقبلة تقتضي المواجهة من نقطة البداية، كاميرا المراقبة.