أعطت القمة النووية التي عُقدت في واشنطن يومي الاثنين والثلثاء الماضيين، دفعاً حقيقياً لموقع الولاياتالمتحدة وللرئيس باراك أوباما، بصرف النظر عن النتيجة العملية والفورية المترتّبة عليها. فقد وُصفت هذه القمة التي ضمّت أكثر من أربعين رئيس دولة وحكومة بأنها أضخم اجتماع لزعماء العالم منذ قمة سان فرانسيسكو التي استضافها الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت عام 1945 وأعلن خلالها إنشاء منظمة الأممالمتحدة. ووجهّت القمة رسالة ضمنية مفادها أنّ الرئيس أوباما هو رجل الدولة الأبرز في العالم وأن الولاياتالمتحدة هي القوة العظمى الوحيدة في العالم. كما نفت القمة الحديث القائل بانهيار أميركا أو ببروز عالم متعدد الأقطاب ورفضت أي إيحاء يشير إلى أنّ باراك أوباما هو رئيس ضعيف أو غير فاعل مع العلم أنه تمّ تداول هذه الاتهامات قبل فترة من تمرير القانون المهم لإصلاح نظام الرعاية الصحية. وبات أوباما حالياً الرجل الأقوى على وجه الأرض والشخصية الأبرز لحلّ مشاكل العالم. اعتُبر المؤتمر أيضاً خطوة إضافية نحو تحقيق رؤية أوباما النبيلة بالتوصل إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، الأمر الذي شدّد عليه منذ سنة خلال خطاب مهمّ ألقاه في مدينة براغ. قبل افتتاح القمة، كشفت الولاياتالمتحدة عن تغيير حقيقي في استراتيجيتها النووية. فأشار تقرير «مراجعة الموقف النووي» الذي نُشر يوم الاثنين الماضي إلى أن «الولاياتالمتحدة لن تستخدم الأسلحة النووية أو تهدّد باستعمالها ضد الدول غير النووية التي تحترم معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية وتلتزم بموجباتها لجهة منع انتشار هذه الأسلحة». ويضيف التقرير أن «الهدف الرئيس» من أسلحة أميركا النووية يكمن في ردع أي اعتداء نووي على ألا يتمّ استخدامها لأغراض هجومية. وفي حال شنّت أي دولة اعتداءً بالأسلحة الكيميائية أو البيولوجية ضد الولاياتالمتحدة أو ضد حلفائها فلن تواجه ردّاً بالسلاح النووي بل «ردّ عسكري تقليدي مدمّر»، على حدّ قول رئيس الدفاع الأميركي روبرت غيتس. كما تعهّدت الولاياتالمتحدة عدم تطوير جيل جديد من الرؤوس النووية. تأمل الولاياتالمتحدة بالتالي من خلال محاولتها إرساء مثال يحتذى به للحدّ من الأسلحة النووية في إقناع الدول غير النووية بالتخلي عن فكرة حيازة هذه الأسلحة. وتكمن المشكلة الوحيدة في أنّ الرئيس أوباما ووزير الدفاع روبرت غيتس فرضا خلال عرض الاستراتيجية الجديدة استثناءات واضحة على العقيدة الجديدة. فأعلن غيتس «إننا نستثني إيران وكوريا الشمالية من ذلك لأنهما غير ملتزمتين معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية»، متوجهاً إليهما بالقول «إن لم تمتثلا للقوانين وإن استمرّيتما في نشر الأسلحة فإن الخيارات كافة مطروحة على الطاولة لجهة بحث كيفية التعامل معكما». وردّت إيران بحزم على هذه التهديدات. فاتهمت الولاياتالمتحدة بممارسة «الإرهاب النووي» معلنة أنها ستتقدّم من الأممالمتحدة بشكوى رسمية ضدها. رسمياً، ركزّت قمة واشنطن اهتمامها على خطة مدتها أربع سنوات لضبط ومراقبة أكثر من 1500 طن من اليورانيوم المخصّب والبلوتونيوم تنتشر في أكثر من أربعين موقعاً في جميع أنحاء العالم، مع العلم أن هذه الكمية تكفي لإنتاج حوالى مئة ألف قنبلة نووية، وهي كفيلة بالقضاء على الحضارة الإنسانية مرات عدّة. ولفت أوباما إلى أنّ التحدي الأساسي يكمن في إبقاء هذه المواد النووية الخطرة بعيداً من متناول الإرهابيين مثل أعضاء تنظيم «القاعدة». لقد تمّ عملياً التداول بموضوع القمة الأساسي خلال الاجتماعات الثنائية التي عُقدت خلف الأبواب الموصدة. فقد أجرى أوباما محادثات مع الرئيس الصيني هو جينتاو في محاولة للحصول على دعمه من أجل فرض عقوبات أقسى على إيران. كما التقى على حدة كلاً من رئيس الوزراء الهندي منموهان سينغ والرئيس الباكستاني آصف علي زرداري لا سيما أنّ تحقيق السلام بين هذين البلدين المجاورين المتخاصمين يُعتبر شرطاً أساسياً للتوصل إلى حلّ في أفغانستان. التقى أوباما كذلك رئيس كازاخستان نور سلطان نزارباييف وحصل على موافقته على السماح للطائرات العسكرية الأميركية باستخدام الأجواء الكازاخستانية للتوجه إلى قاعدة أميركا الجوية في باغرام في أفغانستان. كما عقد أوباما اجتماعاً مع الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش الذي تعهّد التخلي عن مخزون بلاده من اليورانيوم المخصّب منذ الحرب الباردة بحلول عام 2012 والتقى عدداً من الزعماء الآخرين بمن فيهم العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، ما يشير إلى عزم الرئيس الأميركي على حلّ النزاع العربي - الإسرائيلي. وفضّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عدم حضور القمة النووية. ولا شكّ في أن مشاعر الكراهية المتبادلة بينه وبين أوباما قد لعبت دوراً في اتخاذه قرار عدم المشاركة أو أنه ربما كان يخشى معاملته ببرودة كما حصل خلال زيارته الأخيرة واشنطن، إذ لم يتمّ التقاط صور له مع أوباما وهو يبتسم ولم يتمّ عقد مؤتمر صحافي مشترك بينهما، أو أنه ربما ظنّ أنّ المشاكل التي تواجهها إسرائيل لن تلقى الانتباه المطلوب في قمة أميركية تجمع قوى العالم العظمى. لا بدّ من أنّ نتانياهو أراد تجنّب الضغوط الدولية في ما يتعلق بترسانة إسرائيل النووية الكبيرة. فقد رفضت إسرائيل التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية أو فتح مواقعها أمام مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وهي مصمّمة على أن تبقى القوة النووية الوحيدة في المنطقة حتى أنها استخدمت العنف في الماضي لا سيما ضد العراق من أجل الحفاظ على هيمنتها. كما أنها هدّدت مراراً بشنّ ضربة ضد إيران وهي ترفض رفضاً قاطعاً الفكرة التي طرحتها مصر والدول العربية والقائلة بالتوصل إلى شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية. يدرك الإسرائيليون جيّداً أنّ أنشطة إيران النووية والسلام في الشرق الأوسط هما بالنسبة إلى أوباما مسألتان مترابطتان. ولا شك في أنّ الرئيس الأميركي يتوقّع أن تقدّم إسرائيل مبادرة مقابل الضغوط التي يمارسها على إيران. فإن نجح في إقناع إيران بوقف برنامجها النووي الذي لا تتوانى إسرائيل عن وصفه بأنه «خطر وجودي» عليها فينبغي بالتالي على إسرائيل أن تردّ بوقف توسيع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية العربية. ويبدو بوضوح أن هذا ما يتوقّع أوباما حصوله. إلا أنّ ما يثير قلق إسرائيل هو التقارير المستمرة التي تصدر من واشنطن ومفادها أنه في حال أخفق الإسرائيليون والفلسطينيون في بدء المحادثات بينهما، فسيعلن أوباما خطة السلام الخاصة به وسيسعى إلى فرضها. وترغب إسرائيل في تفادي الوصول إلى هذه النتيجة مهما كلّف الأمر. تُعتبر رؤية أوباما بالوصول إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية نبيلة. لكنها تعاني خللاً على صعيد تطبيقها. فمن غير المرجح أن تساهم التهديدات العسكرية ضد إيران كتلك الصادرة يومياً عن اوباما وغيتس وعن الزعماء الإسرائيليين في التأثير في إيران التي تزداد تحدياً. بل على العكس، قد تدفع هذه التهديدات إيران إلى تطوير اسلحتها النووية بأكبر سرعة ممكنة لردع أي اعتداء محتمل ضدها عوضاً عن دفعها إلى التخلي عن طموحاتها النووية. وبدلاً من تهديد إيران ونبذها، يجب إشراكها في التركيبة الأمنية في العالم العربي كما أوصى أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى. ربما لم تنجح قمة واشنطن في إراحة أوباما من المشاكل العديدة التي يواجهها إلا أن الديبلوماسية هي عملية تُنجز خطوة خطوة وهي تتطلب الصبر والعزم. وقد أثبت أوباما أنه يحظى بالاثنين معاً. * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط