(تحية الى سمير عطاالله) - 1 - للمشترك الثقافي العام في الحياة العربية، اليوم، بلاغةٌ لا تجيء من «قديم» الشعر أو النثر عند العرب، ولا من نحوهم وصرفهم. انها تجيء من أدواتٍ «حديثة» متنوّعة، أهمها وأكثرها حضوراً وفعاليّةً: الكرة والشاشة والأغنية. لستُ، في المطلق، ضدّ الأغنية. الغناء للإنسان هواءٌ آخر. لست، في المطلق، ضدّ الكرة. الرّياضة، بتنويعاتها جميعاً، رقصٌ آخر تتعانق فيه لحظةُ اللّعب ولحظةُ المتعة ولحظة الفتوّة. لست، في المطلق، ضدّ الشّاشة. الشّاشة عينٌ أخرى. لكن، عندما تستقطبُ هذه الأدوات ثقافةَ الناس، وتهيمن بحيث تصبح مداراً ومعياراً لكل شيء، وبحيث تنتهي الى تجميد السّماع والبصر، والى تحقير البصيرة، لا بُدَّ من إعادة النظر فيها، وفي طرق استخدامها، ومن التبصّر في الأهداف التي نرسمُها لها. أفلا «يُغنَّى»، اليوم، مثلاً، في بيروت (والبلدان العربية) كلّ شيءٍ، حتّى السياساتُ والكتب المقدّسة وما لا يصحّ فيه الغناء؟ أفلا «يدخل» كلّ شيءٍ في «قفزِ» الكُرة؟ وكلّ شيءٍ «رقصٌ». ولا تسل عن «البصيرة» وأحوالها. - 2 - أعطتني بيروت «دماً» آخر: لا تستطيعُ أيّة مدينة - لا باريس، لا نيويورك، لا طوكيو، لا بيجنغ، لا موسكو، لا لندن، لا روما، أن تحلَّ محلها. - 3 - علّمني هذا «الدَّمُ» ألّا أقرأ نصّاً شعريّاً أو فكرياً إلا فيما أطرح هذا السؤال: ما الجديدُ فيه؟ ومعياري في ذلك ثلاثيّ الأبعاد: 1 - تجربة متفردة، 2 - رؤية للإنسان والأشياء، ذاتية ومتفرّدة. 3 - لغة فنّية، شخصيّة ومتفرّدة. معيارٌ يتيح أن نعرف «جِدّةَ» النصّ، والى أيّ حدِّ يشاركُ في فتح أفقٍ تتأسس فيه جماليةٌ أو شعريةٌ جديدة، أو ينهض فيه فكرٌ جديد، وتنشأُ قيمٌ فنّية وفكرية، وذائقة جديدة بوعيٍ جديدٍ. - 4 - الولاءاتُ والانتماءاتُ، كمثل الخصوماتِ والنزاعات، تقدر أن تحجب الحقائق أو أن تُشوّهها. تقدر أن تحوّل اللّغة نفسها الى ركام - الى مجرّد أدواتٍ، الى مجرّد «ستائر». - 5 - قول الحقيقة هو القول الأكبر. غير أنه مشروطٌ بالمعرفة الكبرى. وبالمسؤولية الأخلاقية الكبرى. تركُ الحقيقة نائمةً تحت سقف الأهواء. إنما هو «ثقافةٌ» ليست هي نفسُها إلّا «كابوساً». - 6 - إن كان للكتابة معنى في عالمنا العربيّ الرّاهن، فهو توليدُ القطيعةِ مع تقاليد الخضوع للواقع وسلاسله، ومع الماضي وأوهامه. - 7 - لا تطيقُ ثقافة الأغنية - الكرة - الشّاشة إلا الكتّابَ والمفكّرين الذين «تبتلعهم» لكي يكونوا «نجوماً» في سماواتِها، و «زخارفَ» و «تزويقاتٍ» لجماهيرها. والكارثة في هذا كله تنزل على اللّغة العربيّة. فهذه اللغة هي «البيتُ» الأخيرُ لهوية العرب. ولا عروبةَ خارج هذا البيت، فما يكون أمرُ هذه الهويّة - العروبة، إذا تحوّلت اللغة - الثقافةُ الى «كُرةٍ» و «أغنية» و «شاشة»؟ - 8 - بَلى أعطتني بيروت «دماً» جديداً: علّمتني أن أرفضَ ثقافة السُّوق، والتسوّق. ثقافةَ «الرأي العام». ثقافة القدرة على تعميمٍ شبه كاملٍ لغياب المعنى. ثقافة التّرويض في «ميدان السّوق»: احتلال الفضاء الخارجيّ - الاجتماعي، وتدمير الفضاء الدّاخلي في الإنسان، فضاء الحريّة والمعنى. «الرأي العام»، غالباً، كمثل «الصورة الفوتوغرافية»: فهذه تختزل الواقع في «لقطة»، وذلك يختزل المجتمع في «صيحة». ولئن كانت الصورة إلغاءً أو تقليصاً لفضاء البصر، بوصفها اختزالاً لما يُرى، للطبيعة، فإن «الرأيَ العام» إلغاءٌُ أو تقليصٌ لفضاء البصيرة، بوصفه اختزالاً للإنسان. - 9 - بلَى، أعطتني بيروت «دماً» جديداً: لا أثقُ أن سماءها الرّاهنة قادرةً على النوم في سرير الأرضِ، أو حتّى على لمسه. ويُخيّل إليَّ كأنّ هذه السماء آخذةٌ في تغيير اسمها. لكن، ما يكون اسمها الجديد؟ - 10 - دائماً، عندما أبتعد أقترب. أزداد اقتراباً. هكذا، من نقطةٍ صغيرةٍ في خريطة الصين، مثلاً، أو خريطة الولاياتالمتحدة الأميركية، يمكن أن أرى الخريطة العربيّة بشكلٍ أوضحَ وأفضلَ من رؤيتي لها وأنا في بيروت. غالباً، تبدو لي الخريطة العربية، من هذا المرقب البعيد القريب، كأنها معجمٌ للدّخان. - 11 - خطواتٌ في شوارع بيروت: قصائد تنتقل في غبارٍ فكري، حيناً، موسيقيٍ، حيناً. - 12 - وجوهٌ كثيرةٌ ضاعت مني في بيروت، كنت رسمتها بين أهدابي. هل كانت هذه الوجوهُ واقِعاً أم مرآةً؟ الواقع، اليومَ، مليءٌُ بالثّقوب. والمرآةُ وهمٌ حتّى عندما تأخذنا اليه نشوةٌ نرجسيّة. كنتُ وزعت أيّامي على هذه الثّقوب ظنّاً مني أنها أعشاشٌ لطيورٍ من سُلالةٍ مقبلةٍ، ورغبةً في محو حدودِها والمَزج بينها وبين الأفق. هكذا فُتنت، طويلاً، الصّعود والهبوط على سُلّمٍ عربيٍ تعزف عليه الدقائق موسيقاها الفاجعة. وكان صمتٌ على البحر يُهيمن عليّ هامِساً: لماذا تستعجلني، ولستُ إلا خبّازاً بطيئاً للكلام؟ - 13 - شوارعُ - شعراء محمولون على قصائِدهم، مجدولةً بحبالِ ذاكرةٍ تجدلُ الجسور بين المدينة والتّاريخ. - 14 - بيروت - حقّاً في ظِلّها تُكتشفُ الأهميّة القصوى لذلك اللّعب الغامض، الفصيح والدّارج، بين الإنسان والزمن. لا يُغيّر من هذا الأمر شيئاً أن يتدلّى الفضاءُ في بيروت من أكتاف بيوتاتِها القديمة كمثل حقائبِ تُهيَّأُ للسفر. ومع أنني ألمح الآن ورقاً أصفرَ على وجوه الشّوارع، فلن أتردّدَ في القول إن ليل أشجارها هو الذي علّمني القراءة، وإنني أخذتُ الكتابة عن شقيقه النّهار. لن أتردّدَ كذلك في القول إن في جسمي أجساماً كثيرةً لا أعرف أن أحصيها، وإن في عينيَّ حلماً ببشرٍ ينحدرون من الحبّ والفنّ والعمل. لا عادةً لهم أكثر جمالاً من عادة الصّداقة. ولا تاريخ لهم إلّا الضّوء. - 15 - أعمقُ ما يُوصفٌ به الواقع في بيروت: لا وجودَ له إلّا بوصفه حلماً. هكذا لا تريد بيروت أن تبقى حيث هي، ولا تريد أن تعودَ الى حيث كانت. هكذا يتوقّف الزّمن فيها، لكن لغايةٍ واحدة: أن يبتكر لنهاره مولِّداً آخرَ للسَرعة، وأن يشحن ليله بطاقاتٍ أخرى للنُّور. لكي أفهمَ وردةً واحدةً، عليّ أن أُحصيَ الأعمالَ الكاملةَ للعطر، أن أقرأها واحداً واحداً، أن أجمعَ السماءَ والهواء، الماءَ والتّراب والشّمس في أحيصٍ واحد، أو على ورقةٍ واحدة، وماذا، إذاً، يتوجب عليَّ أن أفعلَ لكي أفهمَ بيروت؟ - 17 - بلى، أعطتني بيروت «دماً» جديداً: ما أكرمكِ وما أبهاكِ أيّتها الّلانهاية! أنتِ، وحدكِ، تبنينَ وطني. وأنتِ، أيّتها القصيدة، أيّتها الكتابة، التي لا نرَى فيها ذروةً ولا هاوية، ولا نرى سفينةً أو كوكباً، ما تكونين، إذاً، ومن أين جئتِ، ولماذا تجيئين؟