ننتظر هذه السنة قرص شمسٍ ساخناً، بإمكانه شواء أجسادنا، وعلى رغم إجماع الناس على حرّ هذا الجوّ ولهبه، ووقوعهم تحت وطأته، إلا أننا لم نشكّ بعد في أسباب استمرارنا في الاستسلام لألبستنا التي تزيد الجو حرارةً، وإذا كان الفيلسوف الألماني هيجل يقول: «الثياب هي ما يصبح به الجسم دالاً وحاملاً لعلامات خاصة»، فإنني لا أرى في ألبستنا - خصوصاً في الحر - إلا الحصار الجسدي. في أوروبا وبعد الثورات والإصلاحات بدأت سلطة اللباس كعلامة دالة على حرفة أو رتبة اجتماعية تخفّ وتتآكل، نظير تحوّل اللباس من غاية ترتبط بالهوية إلى وسيلة تساعد في إتمام العمل وسهولته، على عكس ثقافتنا العربية التي تعتبر اللباس غاية في ذاته، لارتباطه بالهوية ولعلاقته برؤية الناس لك. الناس يصنفونك على ما تلبس أحياناً. أما أن تلبس ألبسة مخالفة للهوية فأنت تقع في مشكلة مع النظرات الحارقة التي لا تقل حرارتها عن حرارة الشمس التي سيشوينا قرصها خلال الأشهر المقبلة. ومع كثرة الحديث عن الأفكار والشكّ فيها، إلا أنه ساءني غياب الحديث العلمي عن الألبسة وضرورة تغييرها والشكّ فيها. ومن أكثر ما أعجبني في هذا المضمار مقالة لعبدالسلام بن عبدالعالي عن «اللباس والهوية» وهي مقالة إلا أنها مكتنزة بالدلالات فهي بحث مختصر لعلاقة اللباس بالهوية. فهو يرى أن: «خير وسيلة لخلخلة هذه الهوية اللباسية هي الكشف عن حركة تكوّنها». وفعلاً فلو قلّبنا التاريخ، لوجدنا أن للهوية اللباسية جذوراً في التاريخ، وأنها توسّعت بتحوله. نحن في الخليج نضع على أجسادنا الألبسة التي تتميّز بالحصار، خصوصاً لمن يريد الحركة المستمرّة والعمل المنتج، فهي على رغم فوائدها إلا أن هذه الفوائد قد توجد في ألبسة أقلّ حجماً منها، كما أن الضخّ الذي تمارسه أشعّة الشمس، والخيوط التي تجلدنا في الظهيرة تحتّم علينا أن نطالب مجلس الشورى بدراسة هذا الموضوع، لعرضه على المقام السامي من أجل الإسهام في تغيير النظام الذي ينص على «اللباس العادي» في الإدارات الحكومية، فالمُراجع مثلاً يجب أن يلبس اللباس الرسمي من أجل أن يعقّب على معاملته، وفي هذا النظام ترسيخ لسلطة اللباس التقليدي. لقد كان لفترات المقاومة التي عاشها العالم العربي ضدّ القوى الغازية دور في استعمال اللباس كدلالة عميقة على غاية التعبير عن الهوية الذاتية وعن الموقف الشخصي، كما هي حال غالب الدلالات الرمزية التي يغصّ بها المجتمع العربي، نظير ارتباطه بالكبت والقهر من الداخل ومن الخارج، فآل به المطاف إلى استعمال اللباس كوسيلة وغاية معاً، أما اليوم ومع تحوّل العالم وتغيّره ومع اشتداد الأزمة المناخية وتحولاتها آن الأوان أن نشكّ في معاني ألبستنا، وأن نخضعها للفحص والتحليل، ولباسنا الخليجي المليء بالأطراف، بحاجةٍ إلى شكّ، خصوصاً أن اللباس الرسمي ستبقى له مواسمه التي يرتدى فيها، أما في أوقات كثافة العمل يحتاج المواطن إلى لباس يكون عوناً له على عمله بدلاً من أن يكون عائقاً فتصطاده الشبابيك والممرات. ذلك التلكؤ في تغيير اللباس ليس أمراً بسيطاً، وهذا الطلب، الذي ربما يبدو سطحياً للقارئ للوهلة الأولى، يشرح العمق الفكري الذي يكمن وراء تثبيت اللباس، كما أن هذا العسر الذي نشاهده من البعض إزاء هذا الطلب هو «عسر تجاوز حضاري» ومن هنا كان اللباس رمزاً وتعالياً على كونه مجرّد وسيلة، خصوصاً في المجتمعات الساكنة التي يستفزّها التغيير. إن الشكّ في اللباس من إزارٍ ورداء يعتبر جريرة من جرائر الذنوب، إنها الصخرة الفكرية المتلبّدة على العقول، والتي لا تمكن زحزحتها في ظروف ساكنة، وتحتاج إلى سنوات ضوئية من أجل تغييرها أو الشكّ فيها. وحتى ينقرض الحرّ سنظلّ نسنّ «مرازيمنا» كل مساء ونستهلك «المريتو» وال«كبكات» ونظلّ نرفع أعناقنا في الشوارع والممرات ونطلق أرجلنا في الهواء، وننسى أننا حتى في ألبستنا نرزح تحت الاستهلاك؛ وأننا أصفار كثيفة ومتوالدة على الشمال. [email protected]