في خطاب باراك أوباما الثالث للأمة أخيراً من داخل البيت الأبيض، لفت الرئيس الأميركي إلى أنه لن ينجر إلى حرب بين بلاده وبين الإسلام، وأن هذا ما تريده «داعش»، والتي وصف أفرادها بأنهم بلطجية وقتلة، غير أن هناك من المبررات ما يجب أن يكشفه للأمة، فهل تسيطر على الرجل هواجس أيديولوجية أو دوغمائية ما، تجعله غير قادر أو غير راغب في المواجهة العسكرية البرية؟ المتابع لتصريحات عدد كبير من ساسة أميركا، مدنيين وعسكريين، يدرك أن هناك إقراراً بحتمية المواجهة البرية إذا أراد العالم الخلاص من داعش مرحلياً، أي تفتيت حضوره المادي في سورية والعراق وليبيا، أما مواجهته الفكرية، فقضية أخرى تحتاج إلى حديث آخر، لا سيما بعد أن جاء حساب حصاد مواجهة «القاعدة» منافياً ومجافياً لحساب البيدر في حروب بوش الابن في أفغانستان والعراق. ولعل هؤلاء الساسة أدركوا ما لم يدركه أوباما، أو ما بلغه وقرر التغاضي عنه، بمعنى أنه دخل في مرحلة خطرة من «إنكار الواقع». وغير المدرك يتمثل اليوم في الأحاديث عن احتمال استعداد داعش لشن هجمات كيماوية وبيولوجية ضد الغرب، وهذا ما دعا فولفغانغ روديشهاوزر، مدير مركز أسلحة الدمار الشامل في منظمة حلف شمال الأطلسي الى التصريح بأن «داعش» في الواقع اكتسب بعض المعرفة، وفي بعض الحالات الخبرة البشرية اللازمة، التي من شأنها أن تسمح له باستخدام المواد الكيماوية والبيولوجية كأسلحة للإرهاب الدولي. هل يخشى أوباما بعض القراءات الداعشية التي تقول بحتمية وقوع حرب في منطقة «دابق» بين الغرب ودولة الخلافة، وأن الهزيمة ستكون من نصيب الغرب وبعدها تنطلق دولة الخلافة؟ ربما يستقيم هذا الفهم في دولة ذات جذور دينية تنتمي إلى القرون الوسطى، أما أن يحدث ذلك في أميركا الدولة العلمانية التي تفصل بين الدولة والدين، فأمر يدعو إلى القلق بسبب العزف على أوتار العقائد الدينية، ما يقودنا إلى الأزمة «الترامبية»، نسبة إلى البليونير الأميركي دونالد ترامب، التي تعيشها أميركا والعام الجديد يتسلل من بين أوراق أجندتها. ماذا عن الترامبية الجديدة والترامبيون الجدد إن أصاب التعبير، وعلى وزن المحافظين الجدد؟ تحتاج الظاهرة الترامبية إلى تحليلات سوسيولوجية معمقة، فالأمر تجاوز الخطاب المعادي للمهاجرين المسلمين تحديداً، إلى الخطاب المعادي للمسلمين الأميركيين، وقد صدر بيان ترامب في السابع من الشهر الجاري داعياً إلى «منع دخول المسلمين الولاياتالمتحدة في شكل تام حتى يتمكن ممثلو البلاد من معرفة ما يجري». وجاء بيان ترامب على خلفية عملية «سان برناردينو» في كاليفورنيا، وقد حاول الطَرق على حديد «الإسلاموفوبيا» وهو ساخن، مستغلاً الأجواء المشحونة ضد سيد فاروق وزوجته تاشفين مالك، وما روج حولهما من علاقة ب «داعش»، وإن كانت علاقة فكرية لا عنقودية. تدفع «الترامبية الجديدة»، نحو تأجيج الكراهية، وتكاد تصل في جنونها إلى المطالبة بإجراءات مماثلة لتلك التي فرضت على اليابانيين في أعقاب بيرل هاربر وعلى رغم رفض غالبية الأميركيين البيض الأنكلوساكسون، وفي مقدمهم عدد من الساعين للترشح، مثل السيناتور ليندسي غراهام وهيلاري كلينتون، وعلى رغم رفض العديد من العقول الأميركية دعوة ترامب غير الدستورية وغير العقلانية، إلا أن أحداً لا يستطيع إنكار تداعياتها وتفاعلاتها السلبية في مجتمع تعاوده أحلام اليمين الديني من جديد، بعد تعاظم الظاهرة «الداعشية» والإخفاق الرسمي الأميركي في مواجهتها، إنْ فكراً وإن عسكرةً، مجتمع تتوافر فيه مسبقاً أجواء معاداة الأجانب ومعاداة الإسلام لدى قطاعات بعينها. بل من المؤسف القول إن «الترامبية» اليوم تجد من الأتباع أعداداً متزايدة، وهذا يدلل على كارثية المشهد، الذي ينحو الى الحروب والمواجهات الدينية، وهو آخر ما يحتاجه عالمنا المضطرب سياسياً وعسكرياً، بعد فترة معاناة من تنبؤات سوداء لهنتنغتون وأنداده قبل عقدين من الزمن، وقد خيل إلينا أن الرجل قد رحل لكن الأفكار في واقع الأمر لا تموت، بل تطير بلا أجنحة. تدفع «الترامبية الجديدة» إلى ما تسعى إليه «الداعشية» بالمقدار ذاته، الصدام والنار والمرارة، وعليه فقد توقع الأميركيون والعالم برمته أن يدخل الرئيس أوباما العالم الجديد، برؤية واستراتيجية توقف الزحف الداعشي وتقطع الطريق على ترامب ودعواته العنصرية، غير أن الجميع، لا سيما مسلمي أميركا في الداخل، قد تلقوا صفعة جديدة، عندما طالبهم الرجل في كلمته ب «اجتزاز» المتطرفين من وسطهم، مشيراً إلى اعتقال أربعة أشخاص أخيراً بتهمة التآمر لمساعدة متشددين إسلاميين عبر بعض المساجد في الغرب الأميركي. دعوة أوباما ل2.8 مليون مسلم إلى مزيد من الرقابة الذاتية ربما اعتبرها البعض حفظاً لماء وجهه، وإظهاره بمظهر المقاوم لحروب الأفكار الداعشية، وهو أمر غير صحيح، إذ ستكون لذلك تبعات سيئة لدى إدارته الأمنية وفي الشارع الأميركي، ما يعزز الهواجس والشكوك حول «مواطنة» المسلم الأميركي وولائه في ضوء استطلاعات رأي مغشوشة لبعض عناصر اليمين الأميركي المتطرف مثل فرانك جافني المعروف بكراهيته للإسلام والمسلمين، والذي روَّج أخيراً قراءة أشار فيها إلى أن 25 في المئة من المسلمين يرون أن العنف ضد الولاياتالمتحدة الأميركية أمرٌ مبرر. هنا يبرز التساؤل: هل أميركا بين الداعشية والترامبية تفقد مقدرتها على قيادة العالم الحر الخيِّر، وتنهي أحلاماً اشرأبت من حولها الأعناق ليكون القرن الحادي والعشرون قرناً أميركياً بامتياز؟ يخيل الى الباحثين أن فكرة القرن الأميركي قد ولدت في نهايات تسعينات القرن المنصرم عبر المحافظين الجدد، غير أن الواقع يذكرنا بأن هنري لوس، رئيس تحرير صحيفة «لايف» الأميركية عام 1941 هو من أبرز هذا المصطلح، وقد كان الأمل يحدوه في أن تكون أميركا بالفعل «مدينة فوق جبل» تنير للعالم حرية اقتصادية وسياسية، من خلال تفادي حرب عالمية ثالثة، وتواري القوة العسكرية لصالح التنمية الإنسانية المستدامة. والشاهد أنها رؤية تقع على خط مضاد تماماً لتصورات المحافظين الجدد، وتعد الاستراتيجية الأميركية للعام 2010 «الاستدارة نحو آسيا»، التجليَ الحقيقي لها، باعتبار الصين قطباً قادماً، وروسيا قطباً قائماً من الرماد، وعليه كان لا بد من قطع الطريق عليهما بأي ثمن. هل كانت «الداعشية» آلية أميركية جهنمية لتحقيق الهدف؟ المؤكد أن تحركات روسيا بوتين، وصمت الصين الحالي، يؤكدان أن وراء الأكمة ما وراءها. وربما لم يأخذ واضعو تلك الاستراتيجية الانعكاسات التاريخية ومكر التاريخ، بل انتقامه من الحضارات الكبرى التي تفسد من داخلها. * كاتب مصري