لم تكن الرحلة اليومية طيلة فترة انعقاد مؤتمر «سيسكو نتووركرز 2010» ومعرضه، بين فندق «موفنبيك» القريب من مطار البحرين الدولي في منطقة المحرّق في شمال شرقي المنامة، وبين «مركز البحرين الدولي» Bahrain International Centre في منطقة «الصخير» في شمالها الغربي، سوى عبور متباطئ في قلب مدينة تنمو بقوة محاولة العثور على نبرتها الخاصة في الخليج. وبعيد خروجها من المحرق، تعبر الحافلة المنطقة الديبلوماسية، التي تعيد بسهولة ذاكرة الوجود العسكري البريطاني المديد في تلك البلاد، في مطالع القرن الماضي. وفي تلك الآونة، لم تكن المراهنة على النفط مضمونة، إلى حدّ أن مديراً لأحد الشركات النفطية الكبرى، قال أنه مستعد لشرب كل قطرة نفط تكتشف هناك. النفط تدفق في البحرين، ربما بأقل مما فعل في بلدان خليجية مجاورة، لكنه حمل الكثير من الثروة إلى تلك البلاد، التي يُظهر أهلها ميلهم إلى الأعمال كافة وإلى التجارة. وفي منطقة المحرّق مثلاً، يعمل البحرينيون في الصيدليات والمستشفيات، إضافة الى المطاعم والمحلات والسوبرماركت والمولات، بتجاور غير متوتر مع جاليات من الصين والهند وماليزيا، إضافة الى دول عربية مثل مصر. وتمرّ الحافلة على أحياء تشي بطبقة وسطى فاعلة، كما يبدي قلب المدينة عزوفه عن الإبهار في المباني، الذي يلاحظ في بعض الدول المجاورة، على رغم إصراره على عمران غربي الطابع. ويظهر ذلك في سلسلة المشاريع الممتدة بين المنطقة الديبلوماسية ومنطقة «سيف»، وخصوصاً تلك القريبة من المرفأ الاقتصادي للبحرين. تعبر الحافلة قرب السوق المركزي في وسط المدينة، فيلوح «سينو 20» CYNO 20 وهو مركز حديث يضم عشرين شاشة للسينما، في قاعات كبيرة. وليست هذه المعالم ببعيدة عن «مستديرة اللؤلؤ» التي يذكر اسمها بأن اللؤلؤ كان مصدراً أساسياً لرزق الأهالي، في زمن ما قبل النفط، كما تتفرع من تلك المستديرة الأساسية طرق كثيرة، يظهر بينها تلك المؤدية الى الجسر الاستراتيجي الذي يربط البلاد بالمملكة العربية السعودية. وتكمل الحافلة سيرها لتصل إلى «مركز البحرين الدولي»، الذي يضم حلبة للسباقات «الفورمولا -1»، كانت أولى من نوعها خليجياً. وفي البرج الشاهق المُطل على تلك الحلبة، عقدت شركة «سيسكو سيستمز» Cisco Systems أخيراً، مؤتمرها السنوي عن الشبكات الرقمية، واسمه «سيسكو نت وركرز 2010» Cisco Networkers 2010، وحمل شعار: «المعرفة قوة». ويلفت انها المرّة الأولى التي تنقل فيها تلك الشركة مؤتمرها التقني، الذي يعتبر الحدث السنوي الأهم بالنسبة إليها، إلى الشرق الأوسط، فاختارت له البحرين التي تمتد علاقاتها مع هذه الشركة إلى عام 1998، بحسب ما بيّن مديروها. فمثلاً، أوضح واين هال، المدير العام لأعمال «سيسكو» في دولة الإمارات العربية المتحدة، أن «سيسكو» أسّست 60 أكاديمية للشبكات الرقمية في تلك المنطقة، تضم لحد الآن 4500 طالب كما تُخرّج ألف طالب سنوياً، نصفهم من مواطني الإمارات، ويديرها 75 أستاذاً. وأوضح أن البنية التحتية للمعلوماتية والاتصالات في الإمارات، تقدّر بقرابة عشرة بلايين دولار. نقلة الى عصر البرودباند إذن، نالت البحرين سبقاً في استضافة ذلك المؤتمر التقني الذي يتميّز بمستواه المرتفع علمياً، بالنظر إلى ما تحظى به «سيسكو سيستمز» من قوة في أعمال الشبكات الرقمية عالمياً، بل أنها تعتبر عملاق شركات التشبيك. جرى الحدث الرئيسي الذي افتتح به المؤتمر في حلبة البحرين الدولية، بحضور الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، ولي عهد مملكة البحرين. وفي خيمة ضخمة، ضمّت أكثر من 3 آلاف شخص، أُعلن أن البحرين اتّفقت مع العملاق الأميركي على مدّ خطوط الإنترنت ذات الحزمة السريعة «برودباند» Broad Band بسعة 40 ميغابايت، إلى البحرين، ابتداء من السنة المقبلة، ضمن خطة استراتيجية للحكومة تعرف باسم «عشرين ثلاثين» وتكتب بالانكليزية 2030، في إشارة إلى العشرين عاماً التي تفصلنا عن العام 2030، مع توقّع تحوّل البحرين إلى محطة أساسية للتكنولوجيا الرقمية بحلول ذلك التاريخ. وعرضت البحرين رؤيتها عن النقلة التكنولوجية في خطوط الانترنت لديها إلى مرحلة الحزمة العريضة «برودباند» على لسان الشيخ أحمد بن عطية الله آل خليفة، الوزير المعني بقطاع الاتصالات، مشدداً على أهمية الانتقال إلى وضع يستطيع فيه المواطنون كافة، استخدام شبكات ال «برودباند» في حياتهم اليومية، من دون أن يلقي ذلك بأعباء مالية كبيرة عليهم. وأعلن أن أول اتصال بالخارج عبر ألياف البرودباند بسعة 40 ميغابايت، سيجري في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2011. وأشار إلى أن دراسات كثيرة، وضمنها تلك التي أجرتها «سيسكو» نفسها، تشير إلى أن نشر شبكات «برودباند» من شأنه زيادة الناتج المحلي بنسبة 4 في المئة. وشدّد على ضرورة خفض سعر الاتصال بانترنت «برودباند»، لأن ذلك عنصر مهم في إدخال تكنولوجيا المعلوماتية والاتصالات في الأعمال اليومية للناس، وبالتالي فإنه مدخل لإدماج التقنية الرقمية مع التنمية. وخلص الشيخ عطية الله إلى توقّع أن يقلّ سعر خطوط الانترنت «برودباند» عن تكلفة الخطوط الراهنة (سعتها 6 ميغابايت) بنسبة 80 في المئة. وفي اليوم التالي، وقّع الشيخ عطيّة الله اتفاقية مع «سيسكو سيستمز» لتحديث خطوط الانترنت في البحرين، وإدخالها في عصر ال «برودباند». وتصل قيمة هذه النقلة التكنولوجية إلى قرابة خمسين مليون دولار. ووقع ميتشيل دنكان أيضاً، تلك الاتفاقية. وأوضح عطية الله أن تولي الدولة مهمة تجديد خطوط الانترنت والدخول بها إلى مرحلة «برودباند» لا يعني أنها تسعى للسيطرة على الاتصال الشبكي في البلاد، وكذلك فإنه لا يغير في العلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، الذي بات ممسكاً بقطاع الاتصالات والانترنت. وبيّن أن التكلفة المرتفعة لهذا الانتقال التقني تجعل من الصعب على شركات القطاع الخاص أن تتولاه، وخصوصاً أن تنفّذه بسرعة، لأنها تسير على إيقاع مصالحها الذاتية وتشابكاتها. وشدّد على أن الدولة رأت أن تتعامل مع خطوط الانترنت، كما لو كانت طريقاً عامة، فتتولى إنشاءه، ثم تترك للنشاط الخاص فرصاً مفتوحة للاستفادة منه. ونبّه إلى أن الدولة تستفيد، في مرحلة لاحقة، من هذا التوظيف، بفضل الأثر المتوقع للبرودباند على نمو الاقتصاد عموماً، بالاستناد إلى التطوّر في البنية التحتية للإنترنت. استعملت الشركة الأميركية منصة خيمة الافتتاح في «حلبة البحرين الدولية» كي تستعرض قدراتها التقنية في مجال الشبكات الرقمية. وقدّمت نموذجاً من البث التلفزيوني المجسّم عبر الانترنت، الذي يشار إليه باسم «الحضور عن بُعد» Tele Presence. وحضر مدير عام شركة «سيسكو» على شاشة عملاقة من الكريستال السائل، أظهرت جسده بالحجم الفعلي، باستخدام نظام «تلبريزنس سيستم 3010» TelePresence System 3010. والمعلوم أن المؤتمر عينه، شهد إطلاق هذه التقنية في الشرق الأوسط، إذ أدخلتها شركة «فاستلكو» الى الكويت التي أصبحت أول دولة عربية تستعمل هذه التقنية التي أطلقتها «سيسكو» عالمياً قبل 3 سنوات. وجرى الإعلان عن ذلك في البحرين والكويت في شكل متزامن. الخليوي بوصفه جزءاً من الإنترنت في سياق مُشابه، ظهرت في المعرض التقني الذي رافق المؤتمر، مجموعة ضخمة من الأجهزة الرقمية المتطوّرة. ويعطي محول «سي آر أس- 3 كاريير راوتنغ سيستم» CRS-3 Carrier Routing System نموذجاً منها. وقد صُممّ ليساعد على التلاقي التقني بين الانترنت وشبكات الخليوي، بحيث يقدر على نقل الأشرطة المرئية- المسموعة والاتصالات الخليوية والملفات الرقمية المتنوعة، باستعمال الألياف الضوئية للإنترنت وشبكات الهاتف النقّال في الوقت عينه. ويعطي «سي آر أس-3» معنى جديداً لمصطلح مثل «الاتصال بالانترنت»، إذ يجعل من شبكات الخليوي، جزءاً أساسياً منها. وفي هذا المعنى، وُصِف بأنه يمثّل النقلة التالية في تطوّر الاتصالات الرقمية. فالحق أن الوضع التقني راهناً يشهد تداخلاً قوياً بين الانترنت والخليوي، كما تعبر عنه الهواتف الذكية التي تصل مستعمل الخليوي بالانترنت، وكذلك المواقع الشبكية التي تتيح نقل رسائل من الانترنت الى الخليوي. وعلى مسافة غير بعيدة من الخيمة، في المباني الملحقة بحلبة سباق السيارات، أقيم معرض تقني هائل، قُدّمت فيه منتجات «سيسكو سيستمز» وشركائها، بما في ذلك ما يتصل بالشبكات اللاسلكية للخليوي. وفي المناسبة نفسها، وضمن مباني حلبة فورمولا البحرين، جرى التوقيع على معاهدة لافتة، أُسند فيها إلى «سيسكو سيستمز» إدخال المعلوماتية تعليمياً إلى المناهج الدراسية في البحرين. والأرجح انها خطوة فريدة في نوعها خليجياً وعربياً، كما بيّن الرسميون البحرينيون أنها تعكس مناخاً وطيداً من الثقة بين الحكومة وتلك الشركة العملاقة. ووقع الاتفاقية وزير التربية والتعليم ماجد النعيمي، ودنكان ميتشيل، نائب الرئيس الأول لسيسكو للأسواق الناشئة. ونالت الشركة 350 ألف دولار لقاء توليها إدماج مناهج المعلوماتية والاتصالات في المناهج التعليمية. وأعلن الطرفان أنهما يعملان على إرساء مخطط تكنولوجي ل «المدرسة النموذجية في القرن 21». على مدار أيام المؤتمر والمعرض، دارت نقاشات مستمرة بين مسؤولي «سيسكو سيستمز» ووفود ضمت إعلاميين عالميين وعرباً، ومحللين متخصصين في سوق الشبكات الرقمية، بما فيها الشبكات اللاسلكية. ولعل قسماً من تلك النقاشات، إضافة إلى الكلمات التي ألقيت بمناسبة الاتفاقيات بين الحكومة والشركة، قدم إجابة عن سبب اهتمام عملاق عالمي في صناعة الشبكات الرقمية، بنقل حدث تقني متطوّر إلى الشرق الأوسط. إذ تبيّن أن الشركة، على غرار نظيراتها من عمالقة المعلوماتية والاتصالات، باتت تنظر الى العالم النامي باعتباره السوق الأكثر أهمية لمستقبلها، بالنظر الى الإمكانات التي تراها كامنة فيه. وأشار غير مدير في «سيسكو» الى أن الرجل الأكثر ثراءً في العالم لم يعد الأميركي بيل غيتس، المؤسس الأسطوري لشركة مايكروسوفت، وإنما كارلوس سليم، المكسيكي من أصل لبناني. وصادف أن سليم كان ضيفاً على شاشة «أل بي سي آي» اللبنانية، قبل أيام قليلة من هذا المؤتمر. وتحدّث بأسى عن الواقع الصعب اقتصادياً واجتماعياً في المكسيك، إذ يقل دخل الفرد فيها عن لبنان، الذي كان بالأمس قريباً في قبضة حروب طاحنة! وفي ضوء حديث سليم، يبدو الكلام الذي يحاول رسم صورة وردية انطلاقاً من احتلاله صدارة قائمة أغنياء العالم، أقرب الى عظة بلسان خشبي. أليس الأقرب أنه يشير الى عمق التفاوت في الاقتصاد والتقنية في المكسيك، خصوصاً أن جلّ ثروته جاءت من الاتصالات الخليوية في ذلك البلد؟ ألا يذكر ذلك التفاوت بالفجوة الرقمية، التي تتشابك مع نظيراتها في الاقتصاد والسياسة والعلوم والتكنولوجيا، بين العالمين الصناعي والنامي؟ الأرجح أن تلك الأمور تحتاج الى نقاش أكثر عمقاً واستفاضة. [email protected]