كان مفترضاً أن يكون العام 2015 أميركياً، عام الإنجازات الديبلوماسية وإنهاء حال العداء الدائم مع إيران وكوبا بالرهان على الاتفاق النووي والانفتاح التجاري معهما. ورغم إنجاز هذه الاتفاقات، هيمن صعود تنظيم «داعش» وتهديده الغرب، من باريس إلى كاليفورنيا، على رصيد الرئيس باراك أوباما، مهدداً بتقويض ترِكته السياسية واحتمال إعادة المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض عام 2016. «داعش» الذي وصفه أوباما بأنه مثل فريق «جاي في»، أي الهواة في رياضة كرة السلة، يطارد شبحه الإدارة الأميركية ويُظهر حجم التصدّعات في عقيدة الرئيس الأميركي الخارجية، فمن الانسحاب المبكر من العراق، إلى تجاهل الحريق السوري، فتحت سياسات أوباما -كما يقول منتقدوه- الباب ل «داعش» على مصراعيه للتمدُّد بين الموصل وتدمر. عقيدة أوباما والواقع وصول أوباما إلى البيت الأبيض عام 2008 كان في جزء منه رداً عكسياً على سياسات سلفه جورج دبليو بوش الذي خاض حربي أفغانستانوالعراق، وضاعف العجز المادي، وأضر بموقع أميركا دولياً. واعتمد صعود أوباما على نبرة انقلابية ضد بوش، بإعطاء أولوية للانسحاب من العراق، والتواصل مع إيران التي كانت في «محور الشر» سابقاً، وإنعاش عملية السلام. وكان هدف كل ذلك أن يبدو أوباما رئيساً «تحوُّلياً» على الساحة الدولية، كما كان رونالد ريغان وقبله جون كينيدي. سريعاً اصطدم أوباما بواقع شرق أوسطي معقّد أفشل خطط عملية السلام، وإغلاق غوانتانامو، وأبقى على المفاوضات مع إيران وسرّع الانسحاب من العراق، وبقي على مسافة من سورية. ويعزو المراقبون هذه السياسات إلى عودة «داعش» من باب التهميش في العراق والفوضى السورية، وبسبب تراجع القيادة الأميركية في المنطقة كما تقول نائب رئيس الدراسات الخارجية في معهد «أميركان إنتربرايز» دانيال بليتكا ل «الحياة». وتعتبر بليتكا أن الرئيس الأميركي المقبل وبصرف النظر عن اسمه وحزبه «سيواجه عواقب الاتفاق الإيراني المدمّرة والفشل في إدارة الملف السوري، وصعود تنظيم داعش وازدياد قوته». وترى بليتكا أن الواقع الذي سيتركه أوباما لخَلَفه هو «كابوس حقيقي»، وتشدد على أن التغيير الجذري في السياسة الأميركية لا مفرّ منه، سواء كان الرئيس المقبل الجمهوري ماركو روبيو أو دونالد ترامب، أو الديموقراطية هيلاري كلينتون. فالرهان على أن الاتفاق النووي الإيراني سيقوّي المعتدلين، ويفتح أفق التعاون بين واشنطنوطهران، بعد مصافحة فيينا في تموز (يوليو) الفائت، سقط أيضاً هذه السنة، فمن اعتقال أربعة مواطنين أميركيين إلى الدخول مع روسيا في التصعيد العسكري في سورية إلى عرقلة الاستراتيجيا في بغداد، لم يأتِ الاتفاق النووي ب «بداية جديدة» مع إيران، ولم ينهِ التجاذب الإقليمي، فالمعتدلان اللذان تراهن عليهما واشنطن، الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، لا يمتلكان مفاتيح القرار، كما يقول مسؤول أميركي ل «الحياة»، وفي ملفات إقليمية أبعد من الاتفاق النووي. هذا يعني أن الإنجاز النووي مع إيران هو بالدرجة الأولى تقني واقتصادي، يتيح إمكان فتح باب ضيق للاستثمارات في ضوء استمرار العقوبات غير النووية، ومصيره غير محسوم بعد عشر سنين. أما الزيارات المتبادلة والإفراج عن الرهائن فغير وارد في القاموس الإيراني- الأميركي، وأيديولوجيا الثورة في 1979 برهنت أنها أقوى من رسائل أوباما إلى مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي. وتبدو حظوظ أوباما بزيارة هافانا أعلى بكثير مما قد تأتي به طهران أو فرص إغلاق معتقل غوانتانامو. فكوبا فيدل وراؤول كاسترو تحركت بسرعة لكسر الجمود في العلاقة هذه السنة، وذلك عبر فتح السفارات ومن ثم استئناف حركة البريد والطيران بين الجزيرة الشيوعية وأميركا الرأسمالية. وقد تتوّج هذه الخطوات بزيارة تاريخية لأوباما إلى هافانا العام المقبل، بعد ستة عقود من القطيعة الديبلوماسية والاقتصادية بين البلدين. صعود «داعش» جاءت الانتكاسة الأكبر لإدارة أوباما في 2015 من عدو قلّل من أهميته البيت الأبيض قبل عامين، وهو غير مستعد لتبني استراتيجيا عسكرية قادرة على هزيمة «داعش» بدل احتوائه. فهذا العام ورغم أكلاف الضربات الجوية، توسع «داعش» في الرمادي وريف حلب وتدمر، ورسخ قبضته في الموصل والرقة. الفشل في احتواء «داعش» اتضح من خلال اعتداءات باريس في 13 تشرين الثاني (نوفمبر)، ثم في اعتداء سان برناردينو في 2 كانون الأول (ديسمبر) الجاري. هاتان المحطتان رسّختا القناعة الأميركية خارج الإدارة بأن الاستراتيجيا الحالية غير كافية، وبأن الاحتواء الذي يعتمده أوباما فشل في حماية الأمن القومي الأميركي، كون اعتداء كاليفورنيا هو الأكبر إرهابياً منذ 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ويقول مسؤول ديموقراطي سابق على تواصل مع البيت الأبيض، إن فريق أوباما متمسك بصواب نهجه، ولا يريد تصعيداً بإرسال قوات أميركية تقاتل ضد «داعش» أو إنشاء مناطق حظر جوي قد تقود إلى مواجهة مع روسيا في سورية. وساهمت الاعتداءات الأخيرة واللهجة الانتخابية في أميركا المنتقدة بشدة لأوباما، في تهاوي ثقة الأميركيين بجهوده ضد «داعش»، إذ أبدى 34 في المئة فقط اقتناعهم بأن هذه الاستراتيجيا ستنجح، فيما ارتفعت المخاوف من عمل إرهابي الى أعلى نسبة في أميركا منذ 11 أيلول (سبتمبر ) 2001، وبلغت 79 في المئة (استطلاع «نيويورك تايمز»). مع ذلك، من غير المتوقع أن تشهد الأشهر المقبلة تحوُّلاً في سياسة أوباما التي تبقى محصورة بالضربات الجوية، وتحسين التعاون الاستخباراتي مع الحلفاء من دون التصعيد براً، رغم انهيار برنامج تجهيز قوات للمعارضة سورية، وفشل بغداد في تسليح العشائر وتأهيل قوة سنّية ضد «داعش». المحافظون الجدد انتكاسات إدارة أوباما في الخارج تثير قلقاً في معسكر هيلاري كلينتون الانتخابي، فوزيرة الخارجية السابقة غير قادرة على إعلان طلاق كامل مع رصيد أوباما الذي كانت جزءاً منه لأربع سنوات، وهي تحاول اليوم البقاء على مسافة، بتأييد الخطوط العريضة والتمايز بالتكتيكات واللهجة. تؤيد كلينتون الاتفاق النووي الإيراني لكنها تنتقد «أذرع إيران في كل النزاعات الإقليمية» وبينها اليمن، كما قالت في خطاب أمام مجلس العلاقات الخارجية. وتؤيد السيدة الأولى السابقة محادثات فيينا الخاصة بسورية، إنما تدعو لإنشاء منطقة حظر جوي والتصدي لروسيا. ويقول مستشار في حملتها ل «الحياة»، إن كلينتون ستُصعِّد في خطابها بعد تجاوز الانتخابات التمهيدية ونيل ترشيح الحزب الديموقراطي في الربيع المقبل، من دون التفريط بعلاقتها مع أوباما الذي ستحتاج إلى دعمه الانتخابي، وحشده أصوات الليبراليين والأقليات. وساهمت تعثُّرات أوباما في إعطاء الاندفاعة الأكبر للمحافظين الجدد منذ مغادرة بوش الابن الحكم. إذ عادت اللهجة المتشددة إلى حملات المرشحين الجمهوريين روبيو وتيد كروز ودونالد ترامب، الذين تعهّدوا إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، والتصعيد جواً وبراً ضد «داعش». كما تبرز أسماء من حقبة بوش، بينها بول وولفوفيتز وستيفن هادلي في الحملات الرئاسية للجمهوريين. وفيما يستبعد الخبير الجمهوري من معهد «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطية» جوناثان شانزر، العودة إلى سياسات بوش، يقول ل «الحياة» إن الحزب الجمهوري «أكثر حذراً وأقل أيديولوجية عما كان عليه أيام بوش عام 2000». ولا يرى أن هناك قابلية كبيرة لدى الرأي العام الأميركي لخوض حروب في المنطقة. في الوقت ذاته يُجمع الخبراء على أن تخبُّطات أوباما هذه السنة، من الرهان على إيران، إلى التقليل من خطر «داعش»، ستفرض إعادة التوازن إلى السياسة الخارجية الأميركية بعد خروجه من البيت الأبيض، وستطرح علامات استفهام حول شرعيته الخارجية، بين نجاحات هافانا وخيبات المنطقة.