على رغم السجالات الجدلية المشتعلة حالياً في المملكة بين مختلف التيارات الفكرية والاجتماعية، وعلى رغم كون نقاط التصادم أكثر من نقاط الالتقاء بشكل كبير إلا أن هناك شيئاً ما صحياً في الجو العام للنقاش وفي إتاحة الفرصة لكل شخص للإدلاء بطرحه مهما كان، فهكذا يتشكل المجتمع المدني شيئاً فشيئاً، وهكذا ننتقل من المجتمع الأبوي الطبقي التقليدي الذي تنعدم فيه إرادة الأفراد ومظاهر تنوعهم وثقافاتهم إلى المجتمع الحديث الذي يرعى التنوع ويحتويه، وبالطبع فإن الفضل الأكبر لهذا الحراك يعود لوسائل الاتصالات الإلكترونية التي أعطت صوتاً ومنبراً لكل فكر مهما اختلف أو انحرف، والبقاء في النهاية للفكر والطرح الأكثر نفعاً وفائدة وقدرة على التواؤم مع حاجات الناس المتغيرة بتقدم المعرفة وتبدل أنظمة الحياة، وعلى رغم كوننا هنا في القرن ال21 إلا أننا نعيش بداية عصر التنوير كما عاشه الغرب قبلنا، وربما لن نضطر إلى الصراع حول قيمه الجديدة طويلاً بسبب أدوات التكنولوجيا وسرعة الاتصالات وتوزيع المعلومات الآن، بسبب المرور في عصور التنوير تحول الغرب من مجتمعات إقطاعية يحكمها رجال الدين وأصحاب المال إلى مجتمعات مدنية حديثة تتوزع فيها الأدوار وتتاح فيها الفرص لمعظم الأفراد للنجاح والمشاركة الفعالة، ولا يمكن إنكار أهمية هذا النضج والتحول الفكري لمجتمعاتنا التي وإن كانت تمتلك بعض أسباب التقدم المادي والتكنولوجي إلا أنها لا تزال تحبو في عمرها الفكري والتطور الاجتماعي لأفرادها، والقيم التي تشكلت بسببها عصور التنوير في الغرب هي نفسها التي تتصارع حولها مجتمعاتنا الآن، فالتساؤلات المطروحة حالياً حول مذاهب التفكير التقليدية ونقد العادات والأعراف العتيقة التي لا يزال المجتمع عاملاً بها على رغم تقادمها هي الجوهر الذي قامت عليه عصور النهضة. المدرسة العقلانية في عصور التنوير أسستها مجموعة كبيرة من المفكرين والفلاسفة أمثال كانت وديكارت ومهدت الطريق لنشوء المعرفة المبنية على العلوم والأدلة، عملت المدرسة العقلانية أساساً على نقد السائد من الأفكار بالمنهج العلمي المبني على مبادئ محورية كالحرية والديموقراطية وإعمال المنطق والتجربة، وبالتالي عملت هذه المبادئ على عدالة توزيع الممتلكات والقرار والسلطة بين الناس، ومن ثم نشأ مجتمع مدني أكثر توازناً وعدالة، هذا المجتمع المدني قام على مؤسسات تتصف بثلاثة مقومات أساسية وهي القدرة على احتواء الجميع على اختلافهم، والمشاركة في صناعة القرار، وإمكانية النقد والتعديل، وكانت أحد الأمثلة على تطور المجتمعات المدنية هي نشوء العديد من المؤسسات المدنية بواسطة أفراد المجتمع والمعنية بالنقاش والحوار للوصول إلى أفضل نقد للفكر السائد وتبني الفكر الأفضل، والمثال الأفضل لمجموعات النقاش والنقد هو مجتمعات لندن للنقاش، والتي نشأت في القرن الثامن عشر بمجموعات من الأفراد في المجتمع أو طلبة القانون أو مجموعات الممثلين أو طلبة العلم الديني، وكانت كل مجموعة تتقابل دورياً للنقاش حول المواضيع الدينية والسياسية، وكانت مجموعات الحوار تتطلب قدراً من الاحترام والأمن في الحوار وتبادل الآراء بما يضمن إمكانية الاستماع لكل رأي مهْما تعارض مع المقبول والمألوف وكانت أيضاً تشجع أي مهتم بحضورها كالنساء مثلاً، وهو ما أسهم في تشجيع التعبير وعلى الأخص في المواضيع الأكثر حساسية وقتها كأوضاع النساء مثلاً... يمكن الآن مقارنة مجموعات لندن للنقاش بالمنتديات الإلكترونية التي تتيح سقفاً كبيراً من الحرية للمتحاورين لتبادل الآراء حول المواضيع الأكثر خطورة من أن يتم تبادلها في الأوساط الرسمية وبشكل يتعارض مع العرف المقبول دينياً واجتماعياً... ويمكن أيضاً ملاحظة أن المواضيع الأكثر حساسية وقتها كالأوضاع السياسية والسلطة الدينية وأوضاع النساء هي نفسها الأوضاع التي تدور حولها معظم الصراعات والسجالات الحالية في المجتمع السعودي على رغم غياب المقومات الثلاثة للمؤسسات المدنية الفعلية – إن كانت هناك مؤسسة مدنية بالشكل الصحيح - فالناس تتحاور وتتصارع حول المفاهيم والقيم التي تتغير وتقوم عليها مبادئ حياتهم حتى إن لم يأخذ بآرائهم صناعُ القرار وإن لم تحتويهم تحت مظلتها المؤسسات الرسمية هنا وإن لم يجدوا منفذاً ما للتعبير ونقد أداء المؤسسات الحالية يصل إلى المسؤولين فيها، فالنقاش هنا شبيه بحلقات النقاش في مجتمعات لندن القديمة، قد لا يغير شيئاً كثيراً في الواقع وقد لا يحقق أثراً فعلياً في أداء المؤسسات هنا، ولكنه يمهد الطريق لعصر تنوير سعودي حديث تتاح فيه الفرصة للفكر السعودي المنغلق منذ عصور للنضوج والتلاقح حتى تتماشى النهضة الصناعية هنا مع النهضة الفكرية، وحتى نرى مؤسسة مدنية سعودية خالصة يضع قوانينها أفراد المجتمع نفسه ولا تتحيز في خدماتها ضد فئة ما فيه وتسمح قوانينها بالنقد وتعديل الأداء لمنسوبيها وقوانينها ولا تعتبر أنها فوق النقد والمساءلة، وبالنظر إلى تلك المقومات يمكن قراءة واقع المؤسسات المدنية العاملة هنا وسجالها المعلن مع الجمهور، فالمؤسسات الدينية كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً التي تفرض رقابة ما على سلوك الأشخاص وأخلاقهم تتعرض إلى نقد شديد من الجمهور بسبب حساسية عملها، والخلل الكامن هنا هو في عدم تقبل النقد وتعديل السلوك وعدم احتواء الاختلاف بين الناس وفرض نمط أخلاقي متشدد على الجميع وغياب الجمهور عن المشاركة في صناعة القوانين التي تعمل بها هذه المنشأة المدنية المعنية بأمورهم الخاصة، والقضية الأكثر بروزاً هنا هي قضية المرأة ومحاولات المجتمع تحديث التعامل مع المرأة في أدوار جديدة خارج النمط الأسري التقليدي، وبسبب المستجدات الحياتية التي جعلت توثيق وتيسير حضور المرأة في الحياة العامة أمراً أساسياً كما هو بالنسبة للرجل، والحوادث المتعددة التي تثبت لنا أن هناك قيماً أقل أهمية كمظهر المرأة واختلاطها بالرجل تصبح أكثر اعتباراً في صناعة القرار من أمنها المادي والصحي والقانوني تثبت مدى حاجتنا إلى الحوار، فما زلنا نحتاج إلى التحاور - مع الأسف- لإثبات حاجة المرأة للأهلية الكاملة أمام القانون ومن دون أن ينتج من ذلك اتهام أحد ما بالعمالة والتغريب. ما زلنا نحتاج إلى التحاور للقبول بتنفيذ القوانين الدولية المعنية بحقوق الإنسان التي تكفل حريات أساسية قد تتعارض مع المتعارف عليه هنا، ما زلنا بحاجة إلى التحاور لإثبات فائدة المنهج العلمي في تحديد سن الزواج على رغم الضرر الواضح من ممارسته ومن ممارسات أخرى كثيرة في مؤسسات الزواج والطلاق التقليدية، نحتاج إلى المرور بعصر التنوير وإلى مخاض مؤلم حتى ننتقل إلى القرن الواحد والعشرين ليس فقط بأجسادنا ومدننا الأسمنتية ولكن بعقولنا وفكرنا وأرواحنا، نحن بحاجة إلى المنهج العقلاني ذاته للعبور والارتقاء. * كاتبة سعودية - الولاياتالمتحدة. [email protected]