«فيديتا» كلمة مشهورة في اليونان وتعني الثأر، ولعل الكلمة لها أصول إيطالية، لكنها مرتبطة في شكل كبير بجزيرة كريت دون سائر أنحاء اليونان. منتصف الشهر الجاري قتل عجوز في الثالثة والسبعين من عمره أمام عيني زوجته على يد شاب كريتي في إحدى ضواحي أثينا. الحادثة كانت أحدث حوادث الثأر في جزيرة كريت وإن تم تنفيذها خارج الجزيرة، فالعجوز القتيل كان قتل أحد أفراد أسرة الشاب القاتل وتمت محاكمته وسجنه سنوات عدة، وبعد خروجه من السجن عاش في أثينا خوفاً من الانتقام الذي جاء متأخراً على ما يبدو. ضحايا الثأر المتبادل في كريت شباب وعجائز، ورجال ونساء وحتى أطفال، لكن الأسر تدفع شبابها الى الثأر لأنهم أقدر على ذلك، ولا يشكل الفتيان القاصرون استثناء من هذه القاعدة، كونهم أقل تردداً والأمل في حصولهم على أحكام قضائية مخففة أكبر. الأمر الوحيد الذي يحدد متى تتم عملية الثأر هو متى تكون أول فرصة للقاء الضحية المنوي الاقتصاص منها، فالكريتيون لا يعتبرون أن أحكام القضاء تنهي «عار» الأسرة، ويفضلون إنهاءها على طريقتهم الخاصة. لا يحتاج الأمر الى تحريض كبير من الأسرة ليتولى الشاب عملية «تنظيف» اسم العائلة من العار، فالواجب هنا محدد لا يحتمل أي تفسيرات أخرى: المطلوب أولاً قتل الجاني بأي طريقة ممكنة، وفي حال فراره أو اختفائه قتل والده أو والدته أو أحد إخوانه أو حتى أبناء أعمامه حتى تصل رسالة الرد على الإهانة الأولى، لكن تبادل رسائل الثأر والرد عليها كثيراً ما يتحولان الى «حرب استنزاف» مصغرة تذهب بالكثير من الأرواح والممتلكات. على أن أقسى ما في الأمر هو استهداف الأطفال والنساء والعجائز، فهؤلاء كثيراً ما يدفعون ثمن حماقة الغير وقساوتهم من دون أن يكون لهم دور في ذلك، وإن كانت بعض النساء من الأسر التي تسعى الى الثأر لا تتورع عن تحريض ابنها على قتل أي رجل أو امرأة من الأسرة المعتدية. الشبان الراغبون في الانتقام والثأر لا يجدون صعوبة كبيرة في إيجاد الوسيلة التي ستحقق لهم هدفهم، فجزيرة كريت معروفة بانتشار السلاح بين أبنائها من دون أي قدرة للدولة على التحكم بالأمر، ويستطيع الشاب إيجاد أي نوع من السلاح الحربي الحديث في الجزيرة وبأسعار معقولة. وبسبب توافر السلاح في معظم بيوت القرى في الجزيرة، فإن أي إشكالية بين أسرتين قد تؤدي الى تبادل إطلاق النار في شكل عشوائي، وبالتالي الى قتل أو جرح الكثير من الأفراد الى فتح باب الثأر والرد عليه. وفي كثير من الأحيان تتم عملية الثأر داخل قاعة المحكمة ويوم النطق بالحكم، والمقصود بذلك إظهار أن أيدي الأسرة قادرة على الوصول الى من يعتدي على أبنائها، ولا شيء يحمي المعتدين عليها حتى القضاء نفسه، وأنه وإن قال القضاء كلمته فالأسرة لها الكلمة الأخيرة، وسجلت أشهر عملية قتل بين أسرتين من كريت على خلفية ثأرية داخل قاعة المحكمة عام 1945. وكثيراً ما تتسبب عمليات الثأر المتبادل بتهجير أسر كبيرة من قراها، وفي أحيان أخرى تهجر قرى بأكملها، إذ إن الشرطة والقضاء والسجن لا تشكل رادعاً لأي متربص يسعى للانتقام للشرف الأسري، وكعادات الثأر في بعض البلاد العربية، ليس للثأر في كريت عمر او طريقة محددان، المهم أن يتم وأن تصل رسالة الاقتصاص والتشفي، ولو كان ذلك بعد أربعين أو خمسين سنة. أما لماذا يبدأ القتل الذي يليه الثأر، فلأسباب كثيراً ما تكون تافهة للغاية، مثل دخول قطيع أغنام الى أملاك شخص من أسرة مختلفة، أو الانزعاج من الدخان الذي يتسبب به إحراق الأعشاب الزائدة في الجوار، إضافة الى الحزازات والخلافات المزمنة بين بعض الأسر الكبيرة. وفي أوائل القرن التاسع عشر سجلت حادثة قتل أودت بحياة سبعة شبان خارج إحدى الكنائس، وذلك بعد أن أخطأ شاب في إصابة طائر حط على سطح الكنيسة فأصابه شاب آخر، فما كان من الشبان المتجمعين امام الكنيسة إلا أن علقوا بسخرية على الشاب الأول الذي اعتبر الأمر إهانة كبيرة وأطلق النار باتجاه الشبان الساخرين منه فقتل أحدهم على الفور، ورد أولئك فقتلوه وتطور الأمر الى مذبحة قتل فيها سبعة شبان، وتحول العيد الى يوم أسود في حياة الجزيرة. على رغم قساوة القتل والثأر في كريت، فهو لا يزال حتى اليوم القانون الصامت الذي يحكم في الجزيرة ولا يشعر أي شخص يقوم بالثأر بأي عار أخلاقي أو اجتماعي طالما أن شرف الأسرة تعرض للإهانة، وطالما أن السلاح المتوافر بكثرة قادر على تصفية المسألة بعيداً من رأي القضاء والسلطات.