القصف الأخير لقطاع غزة بالطائرات وتواصل التحرشات والاستفزازات الإسرائيلية لحركة «حماس» وبقية الفصائل الفلسطينية هدفها واضح: نريد صواريخكم على البلدات الإسرائيلية بأسرع وقت ممكن كي توفر لنا ذريعة لشن حرب جديدة عليكم وعلى القطاع والهرب إلى الأمام من كل الضغوطات التي نواجهها. نعرف أن العالم كله يراقب ويدرك مرامي استفزازاتنا لكم، ونعرف أننا نتبع استراتيجية مكشوفة، لكن أملنا كبير بأنكم تُستفزون بسرعة وأنه في غمرة حماستكم للرد لا تلقون بالاً للخسائر الاستراتيجية التي تجلبونها على رؤوسكم كما عهدناكم، وتوفرون لنا خروجاً من مآزقنا. حتى كتابة هذه السطور فشل الاستفزاز الإسرائيلي في إثارة الرد المطلوب، ولم تنطلق أية صواريخ من قطاع غزة، وهذا أمر يستحق الإشادة. فهل بتنا نرى حكمة فلسطينية، «حماسية» وفصائلية، مختلفة وجديدة هذه المرة تعض على الجرح وتضبط نفسها ولا تنجر للشراك التي تنصبها إسرائيل؟ إسرائيل تريد حرباً محدودة وبالسرعة القصوى، إما ضد «حزب الله» في الشمال أو «حماس» في الجنوب. فمثل هذه الحرب هي وحدها ما يمكن أن يفك الحصار الديبلوماسي والسياسي الذي تواجهه. ذلك أنه للمرة الأولى منذ سنوات طويلة تشعر إسرائيل بسخونة الضغط الدولي، الأميركي خصوصاً والغربي عموماً. وللمرة الأولى في تاريخ السياسة الأميركية صرنا نقرأ تصريحات لمسؤولين كبار تقول إن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي مصلحة قومية أميركية، وأن حياة الجنود الأميركيين في العالم يطاولها التهديد بسبب الصراع العربي - الإسرائيلي. سبب ذلك كله عنجهية إسرائيل وعنجهية المحافظين الجدد في سنوات جورج بوش الابن التي طفحت بكل المكاييل. ما تمكنت إسرائيل من التملص منه لا يمكن أن تتمكن منه أي دولة في العالم. الحصار اللاإنساني وحده وعلى سبيل المثال على «الغزيين» ونازيته كان يمكن أن يؤدي بأي دولة تقوم به إلى كل المواجهات السياسية في العالم، إلا إسرائيل. قوتها الباطشة وقوة الدعم الأميركية الباطشة أوردت الجميع إلى حواف الجنون السياسي والفعلي. الآن هناك سياسة جديدة في البيت الأبيض نأمل أن تصمد وتستمر، جوهرها أن سياسة إسرائيل وتهربها من حل الدولتين أصبحا عبئاً على الولاياتالمتحدة. لقاء نتانياهو البارد مع أوباما في واشنطن والطلبات الأميركية التي عاد بها مكسوراً إلى تل أبيب وضعته وحكومته أمام خيارات صعبة. الاستجابة لها قد تهدد الإئتلاف الحكومي، وعدم الاستجابة سوف يتسبب في المزيد من العزلة الدولية ويغري دولاً أخرى في تبني سياسات ومواقف أكثر صلابة ضد إسرائيل. هذا كله من دون الحديث عن صورة إسرائيل المتردية في طول وعرض العالم بحسب كل الدراسات واستطلاعات الرأي. المهم هنا أن يواصل الفلسطينيون في قطاع غزة ضبط ردود أفعالهم وأن يمتنعوا عن إطلاق الصواريخ التي صارت الأمل شبه الوحيد لإسرائيل لإخراجها من وحل المأزق الذي تعيشه. ليس هذا فحسب، بل عليهم، وبإمكانهم، توفير مناخات تساعد على تواصل الضغط وتساعد الأطراف الدولية على التمسك بمواقفها الضاغطة ومضاعفتها. وفي سياق وظرف عناصره معروفة للجميع من المهم أن يتأمل الفلسطينيون، وبخاصة حركة «حماس» الحقائق التالية: أولاً: من الضروري هنا التواضع وقبول الفكرة المريرة والتي من الصعب تجرعها على الكثيرين وهي أن الضغط الدولي على إسرائيل والتدخل من قبل الدول الغربية هما الوسيلة الوحيدة المتوافرة حالياً لإسناد الفلسطينيين. ليس هناك أي فعل حقيقي على الأرض للشعارات والتمنيات أو للدور العربي أو للعمق الإسلامي أو لحركة الشارع والأحزاب والتنظيمات. كل ذلك تفكير غرائبي وليس له على الأرض تجسيد حقيقي على رغم أهمية استمرار المطالبة به والتحريض على حدوثه. ولا تني الأمثلة تنحر بعضها بعضاً على مذبح ذلك التفكير، من حرب غزة وحصارها و «العجز» العربي والإسلامي الفادح، وصولا إلى قمة سرت التي أضافت اسمها وتاريخها باقتدار إلى سجل العجز نفسه. والمثير الآن أن «حماس» تكتشف حالياً وخلال السنوات الصعبة بعد فوزها بانتخابات عام 2006، ما كانت منظمة التحرير الفلسطينية وحركة «فتح» قد اكتشفته على مدار عقود طويلة. حرب وحصار غزة «الحمساوية» هما حرب وحصار بيروت «الفتحاوية»، وفي كلا الحربين والحصارين تفرّج العرب والمسلمون على ما كان يجري. المقصود هنا عدم استسخاف الضغط الدولي وترداد القول الببغائي بأن الرأي العام الدولي غير مهم وأنه مؤيد لإسرائيل وباقي تلك المعزوفة. كثير من ذلك صحيح، لكن ذلك الضغط والتدخل هما الأداة الوحيدة حالياً، والبديل عنه هو الاتكاء على عجز العرب والمسلمين. ثانياً: الحكمة وضبط النفس اللذان يُمارسان الآن في قطاع غزة إزاء عدم الانجرار وراء الاستفزازات الإسرائيلية وعدم إطلاق الصواريخ يجب أن يستمرا ويتواصلا. كل التصريحات التي يطلقها بعض «الأبوات» من بعض الفصائل، وبخاصة السلفية الجهادية وسواها، لن تجر سوى الدمار على فلسطينيي القطاع، وسوف تقدم الهدية المنتظرة والمسوغ لإسرائيل على طبق من ذهب. «حماس» أحسنت صنعاً وتحسن صنعاً عندما تكبح جماح أي نمو للحركات «القاعدية» في قطاع غزة، فهذه الحركات ليست لها أهداف أو برامج فلسطينية، إن كانت لها أهداف وبرامج أصلاً. وفي الوقت نفسه يجب أن يُرى موقف «حماس» الضابط لإطلاق الصواريخ من غزة بكونه نضجاً سياسياً، وليس فرصة للمناكفة أو المكايدة السياسية، بالقول إن «حماس» تراجعت عن المقاومة أو سوى ذلك. صواريخ «حماس» من قطاع غزة كانت استراتيجية عسكرية فاشلة لم تجر على الفلسطينيين وعلى «حماس» سوى الدمار والخسارات، وأظهرت إسرائيل للعالم وكأنها ضحية تهديد وجودي من قبل صواريخ متواضعة لا تقدم ولا تؤخر في جوهر الصراع. وعندما تتراجع «حماس» عن تلك الاستراتيجية فإن ذلك يجب أن يكون محط تقدير وليس إدانة. التصريحات التي يؤكد عليها قادة «حماس» في القطاع تدور حول التمسك ب «التوافق الوطني» بين الفصائل على ضبط النفس لأن في ذلك مصلحة الفلسطينيين، وهذا أمر محمود. استمرار ذلك التوافق وضبط النفس معناه زيادة الحنق الإسرائيلي وعدم حصول إسرائيل على ما تريد من مسوغات للحرب وللهرب بعيداً من المأزق الذي تعيشه. ثالثاً: منطق ضبط النفس وعدم الانجرار الذي تمارسه «حماس» في قطاع غزة هو ما تمارسه حكومة سلام فياض في الضفة الغربية، ويجب على «حماس» أن تكف من طرفها عن المكايدة والمناكفة السياسية المتمثلة بالمطالبة بالمقاومة المسلحة في الضفة. «حماس» تضبط الصواريخ في القطاع حتى تتفادى رد فعل إسرائيلياً متوحشاً يضر ب «المصالح الوطنية الفلسطينية». المنطق نفسه يُطبق في الضفة الغربية، إذ نعرف جميعاً أن أي استخدام حتى لو كان هامشياً للسلاح سوف يقود إلى انتقام إسرائيلي يضرب «المصالح الوطنية الفلسطينية» في الضفة الغربية أيضاً. والقول بأن المقاومة في الضفة الغربية مُتاحة لأن الاحتلال الإسرائيلي موجود هناك، بينما هي غير مُتاحة في قطاع غزة لأن الاحتلال غير موجود هو احتيال على الواقع ليس أكثر. إذ من السهل أن يجادل أحد أن شكل المقاومة في قطاع غزة هو إطلاق الصواريخ، كما أن شكل المقاومة في الضفة الغربية إطلاق الرصاص على الحواجز الإسرائيلية. وأن بإمكان «حماس»، نظرياً، أن تمارس المقاومة، وبإمكان «فتح»، نظرياً، أن تمارس المقاومة. بيد أن الأمر وبعيداً من شكل المقاومة يرتبط بأكلافها والتوقيت والحكمة من ممارستها وحسابات الربح والخسارة. رابعاً: إذا أرادت «حماس» أن تساعد في محاصرة إسرائيل دولياً فعليها التفكير بإجراءات وسياسات تحقق ذلك وتكون ذات طابع هجومي، وليست متصفة بردود الفعل فقط. مثلاً تستطيع أن تفكر برمي كرة ملتهبة في الملعب الإسرائيلي ومن نوع خاص. لم يبق في يد إسرائيل من أوراق ضد الفلسطينيين سوى قصة التحريض وعداء السامية. وفي كل محفل دولي لا تني تكرر أن «حماس» ومن ورائها الفلسطينيون يريدون القضاء على اليهود، وتستدل دوماً بمقولات واردة في ميثاق «حماس» ضد اليهود واليهودية. على «حماس» أن تغير ميثاقها أو تلغيه، وسوف يأتي عليها يوم لا تستطيع أن تتفادى ذلك مهما حاولت. لكن في الوقت واللحظة الراهنة لو صرح أحد قادة «حماس» أن حركته تفكر في تعديل الميثاق وشطب المقولات المعادية لليهود كأتباع ديانة، وكل الإشارات إلى «بروتوكولات حكماء صهيون» وما شابهها، فإن في ذلك خدمة كبيرة لكل الضغوط الدولية على إسرائيل. تصريح عابر مثل هذا كفيل بأن يزيد التوتر عند الإسرائيليين ويُضاعف الحصار عليهم، وينظف ويجلي نصاعة الحق عند الفلسطينيين، ويعزز من منطقهم ومنطق مناصريهم. * محاضر وأكاديمي فلسطيني - جامعة كامبردج [email protected]